كتاب عربي 21

مدرسة الإحياء والتجديد

1300x600
على مر تاريخنا الحضاري كان "التجديد" الذي يجمع بين سلفية العودة للمنابع والأصول الإسلامية، وبين عصرية فقه الواقع المعيش واستشراف المستقبل، أكثر من مجرد "خيار" للعقل المسلم، إذ غدا "ضرورة إسلامية" اقتضاها ويقتضيها كون الشريعة الإسلامية هي الشريعة "العالمية" و"الخاتمة".. إذ بدون التجديد، الذي يحافظ على الثوابت الإسلامية؛ كي لا تحدث قطيعة معرفية مع الأصول والمقاصد تُفقد الجديد إسلاميته.

والذي يجدد في الفروع وفقه الواقع، كي تمتد فروع الشريعة فتظلل كل الفضاءات التي يصل إليها الإسلام، وكي تقدم هذه الشريعة الحلول للقرون والأجيال التي تلت وتتلو عصر الوحي والتنزيل.. بدون هذا التجديد الضروري لا تتمكن الشريعة الإسلامية من أن تكون "عالمية" حقا و"خاتمة" حقا.

أي أن التجديد هو السبيل لتحقيق إرادة الله سبحانه وتعالى أن تكون شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته هي العالمية والخاتمة لرسالات السماء، وأن تظل حجة الله على عباده قائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ولهذه الحقيقة من حقائق الأصول الفكرية لمدرسة الإحياء والتجديد في عصرنا الحديث، كانت كل جهود المدرسة معالم على طريق تجديد دين الإسلام لتجدد به دنيا المسلمين.

وانطلاقا من الفكر النبوي الذي جعل التجديد سنة من سنن الله، وقانونا من قوانين المنهاج الإسلامي: "يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها أمر دينها" رواه أو دواود، والذي جعل التجديد عاما في ميادين الفكر والعمل: "إن الإيمان ليخلق (يبلي) في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم" رواه الطبري.. "جددوا إيمانكم، قيل: يا رسول الله، وكيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله" رواه الإمام أحمد.

انطلاقا من هذه التوجهات النبوية، التي جعلت التجديد سنة وقانونا عاما وشاملا أعلنت مدرسة الإحياء والتجديد معالم هذا المنهاج التجديدي، على لسان الإمام محمد عبده (1266 – 1323 هـ ، 1849 – 1905م) عندما قال: "لقد دعوت إلى: 1- تحرير الفكر من قيد التقليد. 2- وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف. 3- والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى. 4- واعتبار الدين من ضمن موازين العقل البشري. 5- وإصلاح أساليب اللغة العربية. 6- والتمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة. وقد خالفت في الدعوة إلى ذلك رأي طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم وطلاب فنون العصر ومن هو في ناحيتهم".

ولقد كان الشيخ محمود شلتوت (1310 – 1383 هـ ، 1893 – 1963م) علما من أعلام مدرسة الإحياء والتجديد، فدعا إلى ما أسماه "التجديد الانقلابي" في فكرية الأزهر ومناهجه، فقال: "إن هذا الذي نريده للأزهر هو في واقعة انقلاب، ولكنه انقلاب محبب للنفوس الغيورة على ماضيها، المتطلعة إلى مستقبلها، انقلاب يصل بالعقلية الأزهرية إلى الفكر الأصيل يوم كان خالصا في موقفه من القرآن، وفي تعبيره عن تعاليم القرآن، وهو في الوقت ذاته يربط العقلية الأزهرية، أو الفكرة الإسلامية السليمة، بالحياة الواقعية التي يعيش فيها العالم، والتي تتجاذبها تيارات فكرية متعارضة، يجب أن يقف العقل الأزهري أمامها ليقي الجماعة الإسلامية غزوها، وليحفظها من الانحلال والذوبان في غيرها".

إنه التجديد الذي يستلهم المنابع الجوهرية والنقية، والذي يقيم التفاعل بين الأصول وبين الحياة الواقعية المعيشة، والذي يصد الغزو والفكر، "ذلك أن سبيل أمتنا إلى الزعامة (في رأي الشيخ شلتوت) هو مقاومة الفكر الوافد إلينا عن طريق الاستشراق والإلحاد، هذا الفكر الذي من شأنه أن يزعزع القيم الإسلامية في النفوس، وأن يمزق وحدة المسلمين والعرب عن طريق الغزو العقلي، والاستعمار القلبي، ولا يظن ظان أننا بهذا نسد على أنفسنا مجال الانتفاع بما قد يكون من نتائج البحث الأجنبي الدقيق في مظاهر الحياة العامة ووسائلها، فنحن نفسح أمام أنفسنا مجال ذلك، والإسلام يدفعنا إليه".

هكذا كان الوعي يتميز التجديد، الذي يستلهم الأصول الثوابت، ويعقد قرنها على فقه الواقع، مستفيدا بما لدى الآخرين من الحكمة، التمييز بين هذا التجديد الإسلامي وبين "الحداثة الغربية" التي تقيم قطيعة معرفية كبرى مع الموروث، والموروث الديني على وجه الخصوص.