في مطلع أيار/ مايو 2015، تسلم مجلس النواب
العراقي دفعة وحدة الحسابات المالية الختامية لموازنات السنوات الثماني (2006 ـ 2013) من حكم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، بهدف مراجعتها والمصادقة عليها، وهو عمل غير قانوني وفق أعراف الأنظمة البرلمانية وتقاليدها، لأن الدور الرئيسي للسلطة التشريعية هو مراجعة حسابات السنة السابقة والمصادقة عليها، ومن ثم الموافقة على موازنة السنة الجديدة المحالة إليها من قبل الحكومة أو السلطة التنفيذية، وذلك تنفيذاً لما نص عليه الدستور العراقي، مع العلم أن موازنة العام 2014، والتي لم يقرها البرلمان في حينه، أعادها مرات عدة إلى مجلس الوزراء لإجراء تعديلات قانونية بسبب وجود مخالفات فيها.
وتكمن الخطورة المالية والاقتصادية في محاولات تجري حالياً لعقد صفقة سياسيه بالمصادقة البرلمانية على الحسابات الختامية للسنوات الماضية، والسكوت عن مئات مليارات الدولارات المهدورة والتي استفاد منها عدد من كبار السياسيين، فضلا عن خروج مبالغ كبيرة، ذهب قسم منها إلى البلدان المجاورة، وخصوصا ايران التي استفادت من سيطرتها على العراق الذي تعتبره أهم النوافذ للتعويض ولو جزئياً عن خسائرها الناتجة عن تطبيق العقوبات الدولية ضدها، وانقاذ اقتصادها المحاصر.
وتشير معلومات لجنة النزاهة النيابية إلى أن الموازنات التي صرفت خلال فترة سبع سنوات (2006-2012) بلغت 614 مليار دولار، ومع إضافة موازنة 2013، يصبح المجموع 727 مليار دولار، وهو مبلغ كبير جداً ويكفي لبناء عراق جديد بكامله، في حين أن الإنفاق على مشاريع استثمارية والبنى التحتية كان غائباً، حتى إن مشاكل السكن والكهرباء والمياه بقيت على حالها من دون اي معالجة، بل زادت تفاقماً، في ظل زيادة نسبة البطالة وارتفاع معدلات الفقر المدقع في بلد منتج للنفط ويملك أكبر احتياطي في باطن الأرض.
ويقوم حاليا فريق من النواب بأعداد دراسات مفصله عن ضياع مئات المليارات من الدولارات في عهد المالكي، ويطالب رئيس البرلمان سليم الجبورة بإجراء تحقيق يستند إلى شفافية مطلقة، لمعرفة أسباب هذا الهدر الكبير من مال الشعب وتحديد المستفيدين سواء كانوا من السياسيين (وزراء ونواب)، أم من الدول المجاورة، تمهيداً للمساءلة والمحاسبة.
تهريب الأموال
بدأ البنك المركزي العراقي في عام 2011 بوضع حد لعرض العملة الأجنبية، في محاولة منه لمعالجة المخاوف المتعلقة بغسيل الاموال وتمويل الارهاب، وبما أنه (أي المركزي) هو المصدر الرئيسي للأموال بالنسبة لسوق الصرف الأجنبي، فقد أدت تعليمات مزادات العملة الأجنبية إلى اتساع الفرق بين سعري الصرف في السوقين الرسمية والموازية (أحياناً يصل الفرق إلى 250 دينار بكل دولار أميركي)، وفي ظل عدم توافر القدرة الكافية لدى القطاع المالي على تنفيذ التدابير الوقائية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، رأي البنك المركزي ضرورة تقييد عرض العملة الأجنبية لمنع الاستخدام غير المشروع للصرف الأجنبي.
ولكن الذي تسجله وقائع المزادات غير ذلك تماماً على أساس ضرورة تلبية الطلب مهما بلغ حجمه، خصوصاً وأن العراق ليس قلقاً على وضع احتياطه النقدي الذي يقدر بأكثر من 100 مليار دولار.
وإذا كانت إدارة البنك المركزي قد افترضت بأن البيع اليومي في مزاد العملة الأجنبية يجب أن لا يتجاوز 100 مليون دولار، فإن البيع الحقيقي الذي يهدف إلى تلبية الطلب كان ضعف هذا المبلغ، ويصل أحياناً إلى 280 مليون دولار، وتقول مصادر ماليه أن الزيادة في التحويل قد تمثل تهريباً أو غسيلاً للأموال.
ووفق توضيحات لرئيس لجنة المال في البرلمان العراقي أحمد الجلبي، فإن البنك المركزي باع من خلال مزاد العملة الأجنبية ما قيمته 312.7 مليار دولار خلال الفترة بين عامي 2006 و 2014 ، أي ما يعادل نحو 57% من مجموع وإرادات النفط البالغة 551.7 مليار دولار، في حين أن مجموع استيراد الحكومة في تلك الفترة بلغ 115 مليار دولار فقط، أما المبلغ الباقي أي نحو 197 مليار دولار فقد اتجه نحو القطاع الخاص، ولكنه يفيض كثيراً عن حاجته الاستيرادية.
وتشير تقارير اقتصادية إلى أن زيادة الطلب على الدولار تعود إلى قيام تجار ايرانيين بالحصول عليه من الأسواق العراقية إثر العقوبات الدولية المشددة التي فرضت على ايران، ورافق ذلك تصريحات نيابيه تتهم عدداً من المصارف بتبيض الأموال وتهريبها، بعدما تبين أن مئات المليارات من الدولارات تخرج من العراق من دون دخول أي بضائع مستوردة في المقابل.
تجارة إيران
لقد تطورت تجارة ايران مع العراق تطوراً كبيراً وسجلت قفزات غير مسبوقة، في السنوات الأخيرة، مستخدمة كل النوافذ المتاحة لإنقاذ
الاقتصاد الإيراني المحاصر، وتشير الاحصاءات إلى أن حجم التبادل التجاري بين البلدين قفز من 750 مليون دولار في عام 2005 إلى أكثر من 13 مليار دولار في عام 2014، ويتوقع رئيس غرفة تجارة طهران يحيى آل اسحاق الوصول إلى 25 مليار دولار سنوياً في السنوات القادمة، مع الإشارة إلى خطورة الخلل الكبير في الميزان التجاري غير المتكافئ لصالح ايران.
ويتأرجح العراق من عام لآخر بين مرتبة الشريك التجاري الأول والثاني لإيران، مع استمراره في احتلال المرتبة الأولى مستورداً للسلع غير النفطية، حيث يستورد 72 في المئة من مجموع السلع الإيرانية المحلية، وتستحوذ طهران من خلال صادراتها على 17.5 في المئة من السوق العراقي، وتطمح الوصول قريباً الى 25 في المئة، ومع الخسائر الاقتصادية التي يتكبدها العراقيون جراء توسع تنظيم "داعش"، تتطلع إلى الاستحواذ على حصص كبيرة من عقود البناء، خصوصاً وأن العراق يتلقى حالياً نحو 70 في المئة من الخدمات الفنية والهندسية الايرانية، إضافة إلى مشروع بناء 15 ألف وحدة سكنيه تم توكيل انشائها إلى مقاولين ايرانيين الذين يطمحون إلى التزام وتنفيذ جزء كبير من الوحدات السكنية التي تنوي بغداد بناءها في السنوات القادمة ويزيد عددها عن مليوني وحدة. وتشارك إيران حاليا في 27 مشروعاً لتوليد الطاقة الكهربائية بقيمة مليار و245 مليون دولار، ويأمل وزير الطاقة الايراني حميد شت شيان أن تستحوذ بلاده على نسبة تتراوح بين 5 الى 10 في المئة في مشروعات تنموية في العراق تبلغ تكلفتها 275 مليار دولار حتى عام 2017 .
تمويل الارهاب
تتحدث بغداد بصراحة كاملة عن اتهام عدد من النواب الذين يتعاملون مع مصارف تجارية القيام بعمليات تتعلق بغسيل الأموال وتهريبها إلى دول مجاورة، وفي غياب الشفافية، فإن المسؤولية الأولى تقع على حكومة بغداد لمعرفة المستفيد من هذه الأموال وتحديد الدول المشاركة، مع الإشارة إلى أن مصادر سياسية تميل نحو ايران نظراً لحاجتها الضرورية لتمويل خططها العسكرية والسياسية والاقتصادية في العراق وسوريا ولبنان واليمن ، ودول أخرى، تلبية لنفوذها السياسي، خصوصاً بعد سيطرتها بالكامل على معظم قطاعات الاقتصاد العراقي.
ويأتي في هذا الاطار التحرك الاميركي الذي قام به مؤخراً مساعد وزير الخزانة في مكتب مكافحة الارهاب والاستخبارات المالية دانيال غلايزر، موجها رسالة إلى فروع المصارف اللبنانية العاملة في العراق وعلاقتها في مسألة إمكان انتقال اموال "داعش" إلى الجهاز المصرفي اللبناني، ومنه إلى النظام المالي الدولي.
ويبرز في هذا المجال التعميم الأميركي لمفهوم الإرهاب وشموله عدداً من المنظمات والدول، حتى إن الرئيس باراك أوباما وصف ايران صراحة بانها "راعية للإرهاب، وتدعم الجماعات الإرهابية" مشيرا إلى أنها تساهم في مساندة النظام السوري، وتدعم حزب الله في لبنان، وحماس في قطاع غزة، وتساعد المتمردين الحوثيين في اليمن" ، ومتهماً إياها بأنها "منخرطة في تصرفات خطيرة ومزعزعة لاستقرار دول المنطقة".
وعلى الرغم من أن الاتفاق النووي المرتقب توقيعه النهائي قبل نهاية حزيران (يونيو) القادم بين ايران والدول الست، سيرفع جزءاً كبيراً من العقوبات المفروضة على طهران، إلا أنه لن يشمل العقوبات ذات العلاقة بالإرهاب، كذلك العقوبات التجارية والاستثمارية التي فرضت على ايران عام 1995 في عهد الرئيس بيل كلينتون والتي منعت الشركات الاميركية من التعامل مع النفط الايراني، كما منعتها من تصدير سلع ومنتجات إلى دولة ثالثة تنوي إعادة تصديرها أو إدراجها في منتجات وجهتها إيران. ومنعت نقل البضائع من خلال الأجواء أو الأراضي الإيرانية أو قيام أشخاص أميركيين بدور الوسيط في أي عمليات تجارية تكون إيران طرفاً فيها.
وقد تم لاحقاً عام 2011 توسيع هذه العقوبات وتشديدها حيث أصبحت تشمل الفروع الأجنبية للشركات الأميركية وتلك التي تفوق نسبة تملكها فيها 50 في المئة. كذلك توسعت العقوبات الأميركية لتشمل البنوك الأجنبية التي تتعامل مع بنوك إيرانية تطاولها العقوبات. مع الإشارة إلى أنه كي ترفع هذه العقوبات، على الرئيس الاميركي أن يؤكد للكونغرس أن إيران تخلت عن دعم الإرهاب وتوقفت عن السعي لاستحواذ الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية والصواريخ البالستية والتقنيات ذات العلاقة.