نظرة واحدة على طبيعة القضايا التي تُثير أكبر قدر من الجدل في مصر الآن، تكفي لمعرفة أي منحدر سقط فيه العقل العام، وكم من تجريف تعرض له المجتمع، وخاصة عندما نقارنها بالمواضيع التي تشغل بشراً آخرين في كثير من أنحاء العالم.
ففي الوقت الذي ننشغل بتفاهات ارتداء الحجاب أو خلعه، وننسى أن وجود عقل داخل الرأس أهم من وضع شيء فوقه من عدمه، ونتحارب على وقع مناظرات عقيمة تعود إلى عصور سحيقة، ونغفل أن ما يُسمى خطاباً دينياً لا ينفصل عن البيئة المجتمعية التي تنتجه، يشتد الجدل في عالم آخر لا يمت إليه بصلة حول قضايا من نوع تطوير السياسات الاجتماعية، وإنقاذ الكوكب من أخطار لا تقتصر على التلوث البيئي والاحتباس الحراري، وأثر أبحاث الاستنساخ على مستقبل البشر.
ويبدو الجدل حول هذه الأبحاث الآن حافزا على التفكير بعد أن دخلت مرحلة نوعية مع نجاح بعض العلماء في تكبير حجم أدمغة الفئران، عبر تزويدها بجزء من الحمض الوراثي للإنسان، في الوقت الذي توصل آخرون إلى وجود "جين" يزود دماغ الفأر بتلافيف، تشبه ما يوجد في أدمغة الأنواع الأكثر تطوراً من الحيوانات مثل الشمبانزي.
وتتيح هذه الأبحاث اكتشاف الخطوات المحددة للتطور الذي مر به الإنسان، وأدت إلى تعزيز قدرته العقلية؛ ولذلك احتدمت المعركة الفكرية الناشبة منذ سنوات بين أنصار أبحاث الاستنساخ ومعارضيها، أو بالأحرى بين من يرون إطلاقها إلى أقصى مدى يمكن أن تبلغه ومن يدعون إلى وضع حدود لها، حتى لا تأخذنا إلى مجهول قد يُحدث تغييراً جوهرياً في الطبيعة البشرية نفسها، بل في طبيعة كثير من الكائنات الحية.
فلم يكن متصوراً أن تبلغ أبحاث الاستنساخ هذا المبلغ العميق في ذلك الجزء من جسم الإنسان المسمى بالدماغ، أو أن تقترب من اكتشاف أسرار التطور الذي حدث في الحياة على كوكب الأرض منذ نشأتها الأولى.
أما وقد صار هذا ممكناً، أو على الأقل أصبح يبدو كذلك، فقد بدأت الهوة تتسع بين أنصار إطلاق أبحاث الاستنساخ ودعاة وضع حدود لها، وتفتح حوارات ممتعة ومناظرات عميقة تتعلق كلها بالمستقبل، بينما نعيش نحن في ماض نسجن حاضرنا فيه ونصادر مستقبلنا عبر انغماسنا في قضاياه.
وإذ تبدو المسافة شاسعة على هذا النحو بين تخلفنا الرهيب والتقدم الذي يزداد في العالم، يصبح مضحكاً ومبكياً في آن معاً، أن يطلق البعض على الهوس العقلي الذي يزداد في مجتمعنا صراعاً فكرياً.