مقالات مختارة

بريطانيا أحوج إلى الوحدة الوطنية من تونس

1300x600
يبدو السؤال غريبا، ولكن الأحداث تفرضه فرضا. أي البلدين هو أحوج اليوم إلى حكومة وحدة وطنية: تونس أم بريطانيا؟ تونس المعرضة لزلازل الإقليم والمهددة بحروب الردة عن العقل والدين، أم بريطانيا التي تنفس عليها بلدان البر الأوروبي حسن تدبير سياسي حتى في السنوات العجاف واقتصادا معافى أو يكاد؟ 

ليست بريطانيا في حرب، ولا خوف عليها من الجوار الأقرب، حيث لم تقع فرنسا أو إيرلندا فريسة لفوضى الاحتراب الأهلي بسبب كثرة البرلمانات والميليشيات. وليست بريطانيا في مرحلة «انتقال ديمقراطي» غير مأمونة النتائج، فقد سبقت هذه البلاد العالم كله إلى إقامة أول نظام ديمقراطي في العصر الحديث دون أن تبتلى بمحن الثورات.

بلاد في نعمة استقرار سياسي ثابت منذ أكثر من ثلاثة قرون. ورغم ذلك، فقد خرج أحد العقلاء من ساستها السابقين لينادي بوجوب إنشاء حكومة وحدة وطنية عقب انتخابات أيار/ مايو المقبل. فقد دعا اللورد كنث بيكر، الذي كان وزيرا للتعليم والداخلية في عهد تاتشر، إلى «التفكير في ما يبدو غير قابل للتصور» حاليا: أي تشكيل ائتلاف حكومي بين العدوين اللدودين: المحافظين والعمال! 
وذلك أن استطلاعات الرأي ترجح أن يحصل الحزبان الكبيران في الانتخابات القادمة على عددين متساويين من المقاعد في انكلترا وويلز وإيرلندا الشمالية. إلا أن الجديد هو أن حزب العمال، الذي ظل يحظى بشعبية بالغة في اسكتلندا طيلة عقود، سوف يتكبد هزيمة نكراء هناك، حيث من المرجح أنه لن يحصل هذه المرة إلا على ثلاثة مقاعد بينما يحصد الحزب الوطني الاسكتلندي جميع المقاعد التسعة والخمسين المتبقية. وبما أن هذا الحزب الانفصالي (الذي انهزم في استفتاء العام الماضي بعد تصويت معظم الاسكتلنديين بالبقاء ضمن المملكة المتحدة) أعلن أنه لن يدخل أبدا في أي ائتلاف مع حزب المحافظين (لأسباب إيديولوجية تتعلق بتمسك الاسكتلنديين بدولة الرعاية الاجتماعية مقابل غلو المحافظين في الليبرالية الاقتصادية)، فإن السيناريو المحتمل هو تشكيل حكومة أقلية يكون حزب العمال مضطرا فيها للائتلاف مع الحزب الوطني الاسكتلندي الذي سيصير في موقع المتحكم في ميزان السلطة (حيث لا يمكن لأي قانون أن يسن في مجلس العموم إلا بدعم منه) فيغتنم الوضع للمطالبة بتفويض مزيد من السلطات إلى اسكتلندا. وهكذا تصير اسكتلندا قاب قوسين من الانفصال المفضي إلى انفراط اتحاد الجزر البريطانية. 

وإذا حصل هذا، فإنه سيكون من أغرب مفارقات التاريخ السياسي المعاصر: حيث أن الحزب الوطني الاسكتلندي لن يحقق غايته الانفصالية فقط، بل إنه سيحققها في عقر دار البرلمان البريطاني، في لندن! أي أنه سينجز في انكلترا ما عجز عنه في بلاده، اسكتلندا!

لهذا فإن اللورد بيكر كتب أخيرا مطالبا بتشكيل حكومة وحدة وطنية تكون غايتها الأولى وضع «اتفاقية دستورية» تصون الاتحاد. بلاد في نعمة استقرار، ورغم ذلك ينادي عقلاؤها إلى حكومة وحدة وطنية لإنقاذ البلاد! علما أنه لا سابق لحكومة الإنقاذ هذه إلا ما كان من ائتلاف العمال والمحافظين أثناء الحرب العالمية الثانية! بلاد في نعمة استقرار، ولكن فيها من الساسة من يقدّر المخاطر ويقرأ العواقب ويتسامى، بصدق الوطنية، على الاعتبارات الحزبية والفئوية. 

فما هو تفسير انعدام مثل هذا التفكير لدى ساستنا؟ أفيكون الوضع في بريطانيا اليوم أخطر منه في تونس؟ ألم يحن الوقت لكي يوقن الساسة في بلادنا المهددة بحملات الإجرام العدمي الخوارجي أن الوضع التاريخي الناجم عن الثورة الشعبية لا يحتمل لعبة الديمقراطية الاعتيادية: لعبة الاصطفاف الإيديولوجي والكيد الحزبي وأبدية المنازلة بين الحكم والمعارضة؟ أربعة أعوام انقضت لم نسمع فيها سياسيا واحدا نادى بجد ووضوح وثبات إلى وجوب اشتراك جميع الأطراف السياسية في الحكم، خارج لعبة السلطة والمعارضة وضد منطق الكسب والخسارة، إلا ما قاله السيد مصطفى بن جعفر عام 2011 عن احتياج تونس، طيلة خمس سنوات أو عشر على الأقل (وهذا تقدير متفائل في رأينا)، لما سماه «حكومة مصلحة وطنية» يكون ولاؤها للوطن، لا للأحزاب أو الإيديولوجيات. هذا ما تحتاجه بلادنا في المدى القريب والمتوسط: حكومة وحدة وطنية حقيقية (وليس تشكيلة محاصصات وترضيات) تضطلع بمهمة إنقاذ تاريخية، بحيث لا يكون لها من هم إلا إخراج البلاد من محنتها وإعادة إطلاقها على سكة التنمية الشاملة المحفزة لطاقات الشباب والفاتحة لآفاق التعليم الراقي والمجددة لأسس التحصين الثقافي الواقي من ضلالات الشرق والغرب.



(نقلا عن صحيفة القدس العربي)
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع