كتب محمد صالح المسفر: اختطفت يد المنون من بيننا، يوم الخميس الماضي، الشيخ المجاهد حارث بن سليمان الضاري، وفي يوم حزين على رحيله إلى الدار الآخرة أقام إخواننا أهل العراق والمحبون والمتابعون لنضال الشيخ
حارث الضاري مراسيم عزاء في الدوحة، وتوافد إلى ذلك الجمع الكثير من القطريين وإخواننا العرب المقيمين معنا لتقديم فروض العزاء لأهل العراق في الدوحة، وكان في استقبال المعزين الشيخ الدكتور عبدالحكيم السعدي وبعض مشايخ شمر المقيمين في الدوحة.
وقف المجاهد الفلسطيني خالد
مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة
حماس مؤبناً الفقيد العزيز علينا جميعاً، واستعرض خالد مشعل في كلمته بعضاً من سيرة حياة الفقيد الشيخ حارث ضد الطغيان والاحتلالين، وما يحيط بالعراق الشقيق من عناء وحروب، مستدعياً تاريخ أجداد الشيخ الفقيد في مقاومة الإنجليز إبان ثورة العشرين، وتلاه كاتب هذه السطور في كلمة تأبين إلا أنه انفجر باكياً حسرة على فقيد الأمة العربية وأهل العراق خاصة ولم يتمكن من إتمام كلمته، وقال البعض إن دموع المسفر كانت أبلغ من أي كلمة قيلت في ذلك اليوم؛ لأنها صادرة عن محب وعارف بمكانة الفقيد، وتحدث الشيخ القرضاوي عن تاريخ نضال الشيخ الضاري واختتم كلمته بالدعاء للفقيد. وتتابعت كلمات تأبين الكثير من الحضور، كانت كلها إشادة وتعظيماً لدور ذلك الإنسان الكبير.
(2)
تعرفت على الشيخ المجاهد حارث الضاري عام 2000 م، ودار بيننا حديث حول هموم الأمة وما يحيط بالعراق، وقال رحمه الله: "إن الغرب كله وعلى رأسهم أمريكا ناوون على إسقاط نظام صدام حسين واحتلال العراق"، سألت الشيخ الفقيه: وماذا سيكون دور المعارضة؟، قال رحمه الله: "مقاصد المعارضة ليست واحدة، البعض منهم قبلته إيران وهم الأعلى صوتاً، والبعض الآخر يعملون بأجهزة مخابرات دولية متعددة وهم مشمولون برعاية الغرب والأمريكان وإيران، وقليل من هذه التجمعات المعارضة لنظام صدام حسين مخلصون صادقون إلا أنهم قليل، قلت: وماذا عنكم أنتم رجال عشائر العراق وعلمائه، قال: لن نقف متفرجين سنحارب المعتدين، وسنحرر بلادنا العراق من كل المعتدين دون استثناء، إذا نزلت أقدامهم على تراب العراق.
(3)
غبت عن شيخ المجاهدين أبو مثنى فترة من الزمن، لكنني قابلت الشهيد صدام حسين تغمده الله بواسع رحمته في بغداد، ودار بيننا حديث مطول كتبت ما كان يمكن في حينه أن ينشر، وذكرت للشهيد صدام حسين حواري مع الشيخ حارث الضاري، وأثنى الرئيس الشهيد على مواقف الشيخ حارث، رغم أنه، كما قال: ليس من أنصار النظام القائم في العراق، وقال الشهيد صدام حسين: أسرة الضاري لها تاريخ وطني مجيد وقفت ضد الإنجليز وكان جد الشيخ حارث هو الذي أجهز على القائد البريطاني في العراق بسيفه البتار، وعملوا مع القبائل العربية لتحرير العراق من الاستعمار البريطاني، وقال كلاماً جيداً في حق الشيخ الدكتور حارث الضاري، ومما ذكره عنه: "يكفي الشيخ حارث فخراً أنه لم يقف على أعتاب المخابرات الأمريكية والبريطانية والإيرانية يؤلب الغرب والفرس على وطنه العراق، كما فعل من يطلقون على أنفسهم "معارضة"، هذا الموقف يسجل للشيخ حارث الضاري.
(4)
قابلت الشيخ حارث، رحمه الله، بعد الاحتلال في عاصمة دولة عربية في أحد الفنادق، وقلت: صدقت رؤيتك يا شيخ حارث هذا العراق احتل وهذه المقاومة تشتد ضد الغزاة، فماذا أنتم فاعلون؟ قال: المقاومة للمحتل تتصاعد ونحن في الصفوف الأولى، منا مَنْ هو قادر على حمل السلاح، ومنا مَنْ هو قادر على قول الكلمة، نحن نتوزع الأدوار كلٌ بقدر ما يستطيع.
لقد جئت لهذه الدولة أحضهم على مناصرة وتأييد المقاومة ضد المحتل كي لا تفوز إيران بالعراق، وقالوا: "يسير خير"، طلبت مقابلة رأس الدولة تلك لأشرح له الموقف وجهاً لوجه، وفي اليوم التالي اعتذروا عن المقابلة لأسباب الانشغال، وأعطوني "شنطة" فيها مال نقدي، اعتذرت عن أخذها فأصروا فرفضت، وقلت: جئت لأشرح لكم حال العراق وما يتعرض له اليوم، وإن لم تنصروه كما تنصر إيران أتباعها في العراق، فإنكم ستخسرون العراق، قالوا: خذ هذا المبلغ وسلمه المقاومة، قلت لهم: أنتم تعرفون طريق المقاومة، قالوا: خذ المبلغ لتصلح أوضاعك، قلت لهم: أوضاعي صالحة والحمد لله، نحن نريد منكم
-والحديث مع مندوب القصر- نصرة العراق ومقاومته الباسلة.
قال لي الشيخ بهذه العبارة: "يا أخي محمد أنا لم آتِ متسولاً لنفسي من أي نظام عربي، أنا جئت شارحاً هموم وطني الواقع تحت الاحتلال.
(5)
الشيخ حارث الضاري ومتاعب الغربة واللجوء
اشترك الشيخ حارث رحمه الله في برنامج على الجزيرة الفضائية من الدوحة، البرنامج حول العراق، وكان حديثه ليس فيه مجاملة ولا محاباة، لقد رفع هموم العراق ومآسيه تحت نظام نوري المالكي على الهواء مباشرة، كان لذلك الحديث أصداء واسعة، الأمر الذي جعل سلطات الدولة التي يقيم فيها الشيخ حارث وأسرته تمنعه من العودة إليها.
كان ذلك آخر حديث يدلي به على التلفاز قبل أن يهاجمه المرض.
كان رحمه الله في ضيافتي في تلك الليلة، وقلت له: كان حديثك في البرنامج قوياً، فهل ستعود إلى مقر إقامتك؟، قال وأمام الضيوف في منزلي: هل أتاك خبر بعدم عودتي؟ قلت: كلا، لكنني أتوقع أن هناك صعوبة، قال: لقد صدق حدسك، جاءني صباح اليوم خبر بعدم العودة إلى موطن إقامتي، لكن جهود المخلصين في تلك البلاد ألغت أمر عدم العودة.
في دار غربته ومثواه الأخير، رحمه الله، اتصلت به جهات أمنية وطلبت منه الرحيل عن تلك الدولة، وأعطي مهلةً أسبوعاً، فأقام وليمة لبعض شيوخ القبائل وبعض الشرفاء في تلك الدولة، وفي نهاية العشاء قال: أستأذنكم في إلقاء كلمة وداع لكم ولهذا البلد العربي المعطاء، وألقى كلمته المعبرة والمحزنة، فما كان من الضيوف إلا أن حزموا أمرهم وذهبوا لمقابلة رأس الدولة الملك عبدالله الثاني، وطرحوا عليه أمر تهجير الشيخ حارث وأسرته فما كان من الملك عبدالله بن الحسين سليل بيت النبوة، إلا أن أصدر أمراً ملكياً بإلغاء جميع القرارات المتخذة ضد الشيخ حارث وأسرته ومرافقيه.
آخر الدعاء: يا رب أسكن حارث الضاري في مثواه الأخير إلى جوار الأنبياء والمرسلين والصالحين في جنات الخلد، وارحم أهل العراق وانصرهم على طغاة العصر من داخل العراق وخارجه، إنك على كل شيء قدير.
(عن صحيفة بوابة الشرق القطرية، 20 آذار/ مارس 2015)