كتاب عربي 21

رافي بركات وقصة سقوط دعاة العار!

1300x600
لم يكن يتصور أحد بعد الصعود الكبير لدعاة وعلماء ورموز إسلام "التوك شو" والقنوات الفضائية، أن يكون انهيارهم سريعا ومدويا بهذه الصورة.

فالمكانة التي بناها الدعاة الجدد، سواء في الشق السلفي أو الشق الليبرالي منهم، كانت قد بلغت الآفاق وتجاوزت مصر إلى محيطها، حتى أضحت أسماء كـ"محمد حسان - محمد يعقوب - عمرو خالد - خالد الجندي - معز مسعود وغيرهم" ذات جماهير مليونية داخل مساحات التدين الجديد.

وأصبح الشباب المقبل على التدين مفتونا بهذه الشخصيات ومتمركزا حولها، بل وكانت شخوص هؤلاء أقرب إلى نماذج المشاهير الغربيين. فأخبارهم وآخر إنتاجهم وملامح من حياتهم الشخصية أصبحت محط اهتمام الإعلام والصحف، وبهذا تمركزوا في القلب من الخطاب الدعوي الإسلامي وسيطروا على مساحات شاسعة منه. 

إلا أن الربيع العربي وثوراته كانت محطة فاصلة وتاريخية لهذه النخبة، فقد كانت السقوط الأول للشق السلفي من دعاة المشاهير بالتزامن مع ثورة يناير، عبر استسلامه لخطاب الفتنة ولعبه لدور المحايد في موقف يكون الحياد فيه سقوطا أخلاقيا كبيرا؛ بل ولعب آخرون دورا مضادا صراحة لحراك الشباب، ما أسقط سريعا هذه النخبة ونالها من سخرية الثورة ولذاعة النقد، ما جعلها تنحسر في دوائر تأثير ضيقة.

ولم تلبث الفتن سريعا حتى جاءت موجة الانقلاب والقتل والمذابح؛ لتسقط من تبقى منهم وعلى رأسهم "عمرو خالد" ونموذجه ومشروعه صناع الحياة، فلقد كان لهذا المشروع اتساع وانتشار كبيران في دوائر الشباب، وأصبح يخصم من رصيد "الإخوان" والسلفيين في العمل الدعوي في الجامعة والشارع، إلا أن هذا المشروع وصاحبه رقصا رقصة الموت سريعا حين اتخذا الموقف اللاأخلاقي من ما يحدث، وأصبحا طرفا سياسيا في لعبة المواقف التي تتعلق بالدم والظلم، وبهذا ناقض المشروع ذاته واتحد مع خصوم ثورة الشباب وأسقط نفسه للأبد. 

لكن "عمرو خالد" يبدو أنه لم ييأس، فهذا التراجع الكبير والكفر الواسع به وبمشروعه في شرائح الشباب دفعته إلى ارتكاب "حماقة" دعائية جديدة، فالشلل الإدراكي الذي أصاب تلك الفئة من النخب والدعاة جعلت تفكيرهم يقف عند زمن معين ونمط معين، ولم يدرِ عمرو ومن خلفه أن الشباب الذي كان يخاطبه بخطابه "الرخو" القديم لم يعد بذات القدر من السماجة ليتقبل مزيدا من هذا الخطاب "الملزق" -بالعامية المصرية- .

لقد قفز الشباب خطوات كبيرة من "الوعي" تجعل عمرو خالد ومرحلته مثار سخرية عابرة على ألسنتهم. إن الشباب الذي يقف اليوم أمام آلة القتل والذبح على شقيه الواقعي والمعنوي -هذه الآلة التي أخرست لسان "عمرو" ونظرائه وأخرجت تلونهم ومهادنتهم- لم يعد يرى رمزا يستحق أن تستمع له أذنه وعقله إلا من كان على نفس خط النار، و يدفع ذات الثمن الذي يدفع، وإن أي "ثرثرة" سمجة، دينية كانت أو تنموية أو سياسية، ليس لها معنى بعد كل هذا السحق الذي يحصل في مجتمع الشباب وتدمير أحلامهم. 

لا "رافي بركات" إذًا ولا غيرها من المحاولات من الممكن أن تدمج هؤلاء "المشاهير" مجددا بشرائح واسعة من الشباب، فالإسلاميون من الشباب والعلمانيون كذلك أصبحت نماذج "عمرو" وغيرها بالنسبة لهم شيئا من الماضي السمج الذي لا يرغبون في تذكره، فما بالك بأن يروه في واقعهم من جديد، هذا بخلاف ترهل "رافي بركات" ذاتها وترهل خطابها الدعائي الذي هو في الحقيقة دعاية مضادة لها، وكأن الله جعل تدبيره في تدميره !

ولم يصبر الشباب كثيرا للتعبير عن موقفهم الكامن، ولم يعبروا عنه بلغة صحفية أو فلسفية رصينة، بل انفجرت صفحات "التواصل الاجتماعي" للسخرية من الرواية حتى قبل معرفة محتواها ومضمونها، وليس هذا من قبيل السطحية بل من قبيل الكفر بتلك المنصات التي فقدت شرعيتها كنخبة ورمز معبر عن طموح الشباب وعن قضاياه. إن عمرو خالد وغيره ينظر لهم الآن كمشروع ملتصق بالسلطة الغاشمة وكأفراد ضللوا الأمة وخذلوها في موقف أخلاقي كبير، وهم في معسكر "الخصوم" وليسوا في معسكر الحلفاء.

إن الشباب اليوم يتجه ليصنع نخبته الخاصة، تلك التي لم تبدل ولم تُغير، ونبتت من رحم الأزمة والمواقف المشرفة لا من رحم الأجهزة الأمنية وتوجهاتها. إن الرموز التي صنعتها سجون الجلادين والأقلام الحرة التي كانت تتقدم الصفوف في وقت إحجام أقلام نخبة العار الإسلامية، والمشايخ الذين دفعوا ثمن المواقف من رقابهم ورقاب أبنائهم، والشباب الذين كان عملهم وثقافتهم سلاحا في نحور الظلمة..

هم بحق النخبة التي ولدت من رحم اللحظة وهم من يلقون القبول الآن، حتى وإن اختلفوا، إلا أن مشروعية المواقف الأخلاقية تحفظ لكل منهم موقعه في قلوب الشباب، أما عصابة "النخب" التي فرضها الإعلام الأمني والمال السعودي والمواعظ الكاذبة فقد ولت للأبد مع سنوات الاختبار الأخلاقي ..

ولن تمر سنوات حتى يضع الله لهذه الأمة نخبة رشد تقول ما تفعل وتفعل ما تقول.