كتاب عربي 21

من أجل مقاربة تونسية للتعامل مع السلفية الجهادية (2-2)

1300x600
سنخوض صراعا قويا في تونس ونحن نقوم في ذات الوقت بالتأسيس للديمقراطية ومواجهة التهديد التقليدي لخطر ارهابي يتأقلم مع الاوضاع الجديدة. بين قوى ارهابية لا تؤمن بمسار الانتقال الديمقراطي بل تحاول تقويضه والاستفادة من حالة الحريات لزرع "حالة التوحش" وقوى من الماضي تعتقد ان مواجهة الارهاب فرصة وان التهديد بـ"حالة التوحش" ذريعة مناسبة لاقناع المواطنين بنزع مواطنيتهم واستعادة دولة القمع البوليسي (والتي كانت بالمناسبة تقمع اعوان الامن انفسهم)، بين هاتين القوتين سيكون لزاما علينا ان نواجه بدون اي تردد وبكل الحزم اللازم التهديد الاول  ولكن ان لا نضعف ايضا امام اغراءات الطرف الثاني بضرورات استقواء الدولة وتمرير ذرائع عودة الدولة القمعية المنفلتة السابقة.  

المعركة لاقناع التونسيين بضرورة الديمقراطية وان الدولة لن تكون قويا فعلا الا بمضمون ديمقراطي وان قوتها الشكلية الضاربة بمضمون دكتاتوري هي كالزبد اي قوة شكلية متضخمة تسقط اما اول امتحان قوي، مثلما حصل تحديدا في الثورة التونسية، واخيرا وليس آخرا أن الارهاب هو صنيعة عموامل معقدة احدها الدكتاتورية نفسها، وان بن علي من صانعي الارهاب، هذه المعركة لن تكون سهلة وستحتاج وقتا، لكن ليس امامنا من خيار الى الانتصار فيها. 

على هذا الاساس وفقط في في سياق دولة ديمقراطية يمكن ان نواجه الارهاب عبر مقاربة متعددة الاوجه بشكل حقيقي وناجع والقبضة الامنية هي فقط اداة من ادواتها.وفي هذا السياق فإن أحد الابعاد الرئيسية وربما الاهم البعد الفكري والعقائدي، وبالتحديد مسار "نزع الراديكالية العنيفة" من عقول العناصر السلفية الجهادية التي تقرر الانخراط في هكذا توجه (البعد الاقتصادي والاجتماعي خاصة مسالة الادماج في الاقتصاد الرسمي تحتاج تفصيلا منفصلا). لكن الخصوصية التونسية في مواجهة الخطر الارهابي في شكله السلفي الجهادي عبر الوسائل الفكرية والعقائدية، اذ لنا تجارب متفاوتة النجاح في هذا الصدد سنلخص بعضها اسفله، بل تكمن هذه الخصوصية بأننا سنقوم بهذه المقاربة في سياق التأسيس للديمقراطية وفي اطرا اكثر حرية وحيث لا يمكن مقايضة اصحاب الفكر السلفي الجهادي على حريتهم وعقائدهم ماداموا لم ينخرطو في التخطيط للعمليات المسلحة. 

ورغم ذلك هناك تجارب عربية يمكن لنا الاستفادة منها رغم ان سياقها مختلف احيانا بشكل جذري عن السياق التونسي. نبدأ بالحالة التأسيسية للتيار السلفي الجهادي ومراجعاتها اي المثال المصري. تحليل أدبيات وتعليقات وتصريحات قيادات الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد فيما يتعلق بالمراجعات يبيّن غموض دور الدولة في ذلك. وقد ذكر مقال للغارديان في جويلية 2007، أن برنامج مكافحة التطرف الذي أعدته الحكومة المصرية غير بنجاح جماعة الجهاد. من جهة أخرى، يرى آخرون أن المراجعات بدأها قياديون ثم تدخلت الدولة المصرية كرد فعل من خلال تسهيل وتحفيز ذلك. ويبدو أن الدولة المصرية بعثت بشيوخ من الأزهر ومن الإخوان للتأثير على قيادات الجهاد قبل وبعد 1997. يذكر أحدهم أن علماء الأزهر زاروا عناصر من جماعة الجهاد في السجون للتأثير عليهم. وتبين أن الدولة كونت مجموعة من الخبراء المتخصصين لتعليم وإنتاج برامج وأفلام للمساجين من جماعة الجهاد. كما طبعت الدولة مطبوعات لمواجهة الفكر الجهادي في نفس الإطار. الحقيقة أن المراجعات بدأت قبل 1997 أي قبل أن تأخذ الدولة ذلك بجدية مع اعلان وقف اطلاق النار بين الجانبين. قبل ذلك، شكك مسؤولون في الدولة في ذلك بل حاولوا إعاقة الذهاب في ذك الإتجاه. وحسب  القيادي السابق في جماعة الجهاد كرم زهدي وفرت إدارة السجون تباعا المكان والزمان اللذان يسمحان بالنقاشات بين العناصر الجهادية إضافة لمنحهم الكتب والخ.

هناك ايضا المثال المغربي. فحسب مسؤولين مغاربة، الفقر والبطالة من أسباب انتشار الراديكالية. وقد بدأ محمد السادس برنامجا اقتصاديا. كما تم اطلاق برامج للمراجعة مع الجهاديين وجرت في هذا الاطار سنة 2007 حلقات دراسية في سجن سلا. وفي جويلية 2008، دعا أحمد الحرزاني رئيس اللجنة الإستشارية لحقوق الإنسان أنه قبل أي حوار يجب على المعتقلين الإعتراف بمسؤوليتهم عن الأحداث الإرهابية. و في أوت 2008، أعلن ثلاثة من المعتقلين اعتبارهم الملكية هي حامية للإسلام قابلين بمعظم نقاط الحرزاني. وكتب أبو حفص، أحد رموز التيار السلفي الجهادي، من سجنه كتابا رفض فيه العنف الجهادي قابلا بشرعية الملك. وشمل برنامج الدولة المغربية لمكافحة التطرف إعادة النظر في عدة مؤسسات منها صندوق المحمدية والمجلس العلمي الأعلى. اختصارا لقد تمت مغربة الدين بطريقة لم تشهدها المغرب سابقا. 

يتبين من تجارب "المراجعات" و"التصحيحات" أن اعلان قيادات رئيسية في التيار السلفي الجهادي عن تراجعهم العقدي والنظري عن تبني العنف خطوة اساسية في تفكيك المكون الارهابي في التيار. غير أن استمرار الدكتاتورية سيكون دائما منبعا مناسبا بالنسبة لذ?ه الجماعات للعودة. وهو ما حصل في مصر مثلا اذ رغم ان قيادات "المراجعة" مثل طارق الزمر اثبتوا عمليا تمسكهم بالنهج السلمي وتبني الانخراط الفعلي في بناء مسار ديمقراطي نجد من جهة اخرى بروز تنظيم ارهابي بعقيدة سلفية جهادية ممثلا في تنظيم "انصار بيت المقدس" الذي يتذرع بمواجهة اسرائيل في ضربه لؤسسات الدولة المصرية سواء تحت مرسي او تحت سلطة الانقلاب الجديدة (للتذكير قيادات هذا التنظيم تكفر الاخوان مثلما تكفر غيرهم). ولم يقم الانقلاب في مصر الا بمزيد تحفيز هذا التنظيم وتقويته اذ يقدم له حجة ضد مشاركة الاسلاميين في بناء اي مسار ديمقراطي بما ان ذلك سيتم الانقلاب عليه من قبل "القوى العلمانية". الدكتاتورية وخاصة الانقلاب على الديمقراطية حجة مساعدة للسلفية الجهادية ومثبتة لها على نهجها. 

لكن في اطار تأسيسي ديمقراطي مثلما يحدث في تونس المواجهة لا يمكن ان تكون بالمقايضة ويجب ان تكون في طار دولة القانون والمؤسسات. المراجعة الفكرية يجب ان تكون في اطار اكثر حرية وليس بالضرورة وفقط في السجون. بل تكون استباقية مع العناصر التي ترفض حتى الان العنف ولا لتريد التورط فيه. وتكون على قاعدتين: الاولى فقهية والثانية سياسية. الفقهية تتكفل بها في الاطر المناسبة هياكل رسمية او غير حكومية (هنا يمكن الاستلهام من التجربة المغربة اللاقرب من حيث السياق السياسي والعقائدي لتونس) ينتظم في اطارها مجموعة من علماء الدين خاصة من الذين يُعترف لهم بحد ادنى من النزاهة وعدم الترزق من الدين حيث ان شباب السلفية الجهادية يركز سهامه بقوة على من يسميهم "العلماء المنافقين" او "علماء السلطان". 

من الناحية السياسية فان خوض الصراع الفكري مع المنتسبين للتيار يجب ان يتركز على كل فضائل الثورة على المنتسبين اليهم سواء كانوا من المتفعين من "العفو التشريعي العام" او من المواطنين الذين لم يكن ليلتحقوا بالسياسة والحراك الفكري والتنظم لولا ما وفرته الثورة من حريات. اطروحة "فضائل" الثورة على كل الصعوبات والاخفاقات الحاصلة اساسية خاصة مقابل البديل الانقلابي الذي يهدد جميع المواطنين.