مقالات مختارة

الولايات المتحدة وسياستها خلف الحدود

1300x600
كانت إيمي كلوبوكار، عضو الكونغرس الديمقراطية عن ولاية مينيسوتا، تحاول أخيرا شرح السبب وراء بقاء ولايتها محتفظة بروح «العالمية»، حتى في الوقت الذي تتشارك فيه مشاعر الغضب مع باقي الولايات بشأن وضع أميركا في العراق وأفغانستان. وفي خطاب لها في مينيسوتا، قالت كلوبوكار: «لا ينبغي التسامح فقط مع (سياسة العالمية)، بل ينبغي الإيمان بها وتبنيها».

غير أن كلوبوكار حذرت من أن هناك الكثير من الشكوك التي بدأت تأخذ طريقها إلى الكثير من أعضاء الكونغرس، سواء الجمهوريون أو الديمقراطيون، فيما يخص استمرار انخراط أميركا في العمل على المستوى الدولي. وقد أخبرتني كلوبوكار أن كثيرا من السياسيين بدأوا في تبني «الطرح القائل بأنه ينبغي على الولايات المتحدة أن تتوقف تماما عن العمل» خارج الحدود.

تبدو علاقة الولايات المتحدة بالعالم واحدة من القضايا السياسية الخاملة، التي من الممكن أن تطفو إلى السطح في أي وقت، في عام 2014. ويظهر ذلك جليا في النقاشات التي تدور داخل الحزب الجمهوري، لا سيما عندما يعرب بعض الوافدين الجدد في الحزب، مثل راند بول وتيد كروز، عن شكوكهم حيال التزامات الولايات المتحدة العسكرية في الخارج، الأمر الذي دعا السيناتور جون ماكين، الذي يعد واحدا من أكثر المتمسكين بتقاليد الحزب، لوصف النائبين بـ«المعتوهين». كما بدأت إشارات التحفظ تظهر في حديث المعسكر الآخر (الديمقراطيين) فيما يخص الخطاب التقليدي الذي يصاحب قضية نفقات الدفاع والإنفاق العسكري.

غير أن ما يزيد اللغط حول تلك القضية هو تحرر الشعب الأميركي من الأوهام التي جرى نسجها حول حروب الولايات المتحدة في الخارج، وهو ما بدا واضحا في أحد استطلاعات الرأي التي أجراها مركز بيو للأبحاث في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، حيث أشارت النتائج إلى أن 52 في المائة ممن شملهم الاستطلاع من الأميركيين يشعرون أن بلادهم «فشلت تقريبا» في كل من العراق وأفغانستان. وكانت هذه الرؤية القاتمة قد صوت لصالحها 33 في المائة و34 في المائة على التوالي ممن شملتهم الاستطلاعات التي أجريت في عام 2011.

وينسجم الإحباط الذي يعانيه الشعب الأميركي بشأن العراق وأفغانستان مع الكثير من الشكوك المتنامية حول التزامات الولايات المتحدة على المستوى الخارجي. وقد أظهر استطلاع أجراه مركز بيو في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي أن 52 في المائة من الأميركيين يشعرون بأنه ينبغي على الولايات المتحدة أن «تهتم بشؤونها الخاصة على المستوى الدولي»، بينما رأى 80 في المائة أنه ينبغي على الأميركيين أن «يصبوا مزيدا من التركيز على مشاكلنا القومية».

وتعكس نتائج استطلاعات مركز بيو النتائج نفسها التي جاءت في استطلاع «اتجاهات الآراء عبر الأطلسي» الذي يجريه صندوق مارشال الألماني (ويعد كاتب المقال أحد أعضاء مجلس أمناء الصندوق). أوضح هذا الاستطلاع وجود تراجع حاد في نسبة الأميركيين الذين يقولون إنه يبقى من الأمور «المرغوبة بشدة» أن تظل الولايات المتحدة «تمارس دورا قياديا قويا على مستوى الشؤون الدولية». وكان يؤيد هذا الرأي في عام 2010 ما يقرب من 61 في المائة، لكن الرقم تراجع كثيرا العام الماضي حتى وصل إلى 46 في المائة.

وبالرجوع إلى ما قالته إيمي كلوبوكار، عضو الكونغرس الديمقراطية عن ولاية مينيسوتا، يمكننا أن نستنبط مواطن الخطورة في الجدل الدائر حول دور الولايات المتحدة على المستوى الخارجي، أولا: هناك 19 شركة من بين أكبر 500 شركة في الولايات المتحدة تتخذ من ولاية مينيسوتا مقرا لها، ولتلك الشركات نشاط اقتصادي على المستوى الدولي.

ورغم كل انتقادات المذيع غاريسون كيلور لطبيعة الولاية الضيقة الأفق، فإن الكثير من جنسيات المهاجرين تربط مينيسوتا بالعالم، حيث يوجد بالولاية أكبر جالية صومالية وليبيرية في البلاد، كما تتركز فيها ثاني أكبر جالية همونغ في أميركا. كما تضم مينيسوتا أربعا من أهم عشرين كلية يدرس بها كبار الخريجين في العالم.

ربما تتركز «قاعدة» السياسة الخارجية وأفكارها في الولايات القريبة من السواحل الغربية والشرقية، لكن الدعم السياسي لسياسة خارجية ودفاعية قوية يأتي من ولايات وسط أميركا، وهذه هي الفكرة التي تربط بين الكثيرين من أمثال راند بول وتيد كروز.

ولنتذكر معا أولئك الذين كانوا يدافعون عن التزامات أميركا على المستوى العالمي خلال السنوات الخمسين الماضية، سنجد أن منهم من كانوا ينتمون إلى ولايات الغرب الأوسط أو من كانوا ينتمون إلى الولايات الحدودية أو الجنوبية، مثل السيناتور هوارد بيكر (ولاية تينيسي)، والسيناتور ويليام فولبرايت (ولاية مونتانا)، والسيناتور الجمهوري لي هاميلتون (ولاية إنديانا)، والسيناتور والتر مانديل (ولاية مينيسوتا) والسيناتور مايك مانسفيلد (ولاية مونتانا).

تقول كلوبوكار إنه بعد عشر سنوات من الأوقات العصيبة، تحتاج الولايات المتحدة إلى أن تعيد تجديد سياستها تجاه العالم التي تعترف بنصيبها الحقيقي من الالتزامات الخارجية، والتي تجعلها، في الوقت ذاته، تتجنب لعب الأدوار العسكرية المكلفة حيثما كان ذلك ممكنا.

وبالنسبة لولاية مثل مينيسوتا (وأعتقد أن هذا ينطبق على جميع الولايات)، لا يبدو الانفصال عن العالم الخارجي خيارا حقيقيا وواقعيا. لكن ينبغي، على الجانب الآخر، إعادة صياغة سياسة العالمية بما يتماشى مع متطلبات القرن الحادي والعشرين، حتى تعرض هذه السياسة أفكارا تروق لرجل الشارع العادي.

عندما يستحضر رجال السياسة قضية الالتزامات الخارجية، فلا ينبغي أن يستدعي ذلك إلى الذهن مسألة النفقات الضخمة في مجال الدفاع، بل ينبغي أن تستدعي سياسة العالمية إلى الذهن العلاقات التجارية التي من شأنها فتح أسواق جديدة وتوفير فرص عمل، كما ينبغي أن تشير إلى سياسات حقوق الإنسان والمساعدات الإنسانية التي ترتبط بالإيمان القوي بنظرية «الأرض المركزية». وينبغي أن يدرك الجميع أن «سياسة العالمية» تعني أيضا مزيدا من السياسات الأمنية المدروسة التي توفر الحماية للأميركيين في عالم غير مستقر من دون زيادة الميزانية أو الالتفاف حول الدستور.

من المؤكد أن غالبية الديمقراطيين والجمهوريين سيرتكبون خطأ كبيرا إذا ما ساروا خلف راند بول وتيد كروز وصولا إلى الهاوية والانعزال، لكنهم على الجانب الآخر يحتاجون إلى تجديد رسالة سياسة العالمية حتى يمكن الاعتراف بأخطاء الولايات المتحدة، في الوقت الذي تسمح فيه الروابط العالمية بتحقيق نجاح على المستوى الاقتصادي والخارجي في المستقبل. إنه توازن معقد ذلك الذي يحاول بعض السياسيين، من أمثال كلوبوكار، إيجاده، لكنه التوازن الأفضل للبلاد في جميع الأحوال.

(الشرق الوسط)