من البديهى أن الأطباء هم الذين ينقذون المرضى من الموت عبر التشخيص والعلاج ولكن فى أقل من شهر اختطف الموت أربعة من أطباء
مصر نتيجة عدوى مجهولة لم يتم الإفصاح حتى الآن عن تفاصيلها، المأساة بدأت بوفاة الدكتور أحمد عبداللطيف، طبيب بالرعاية المركزة فقد أصيب بمرض فى الجهاز التنفسى فى أثناء تركيب أنبوب حنجرية أصابته بفشل تنفسى وتم وضعه على جهاز التنفس الصناعى فى أحد مستشفيات بنها وكانت حالته حرجة جدا إلى أن توفى تاركا زوجة وطفلة عمرها أسابيع.
أما الضحية الثانية للفيروس القاتل مجهول الهوية فكان الدكتور ياسر البربرى 32 سنة الطبيب بمديرية الصحة بالقليوبية الذى توفى نتيجة إصابته بعدوى فى الجهاز التنفسى أيضا ثم الدكتورة دعاء إسماعيل بمديرية الصحة بالدقهلية، وآخرهم حتى كتابة هذه السطور الدكتور أسامة راشد، طبيب بالمنصورة متأثرا بإصابته بالعدوى التنفسية بمستشفى المنصورة الجامعي، وهو الحالة الرابعة بين الأطباء فى أقل من شهر واحد، بعد مكوثه أكثر من 3 أسابيع فى غرفة العناية المركزة بالمستشفى الجامعى بالمنصورة.
هناك أكثر من عشر حالات أخرى من الأطباء، وأغلبهم شباب يرقدون الآن فى المستشفيات لتلقى العلاج من هذه الإصابة التنفسية الغامضة وحتى الآن لا يوجد بيان رسمى يكشف تفاصيل القضية سوى تصريحات للسيد الدكتور نصر طنطاوى مستشار منظمة الصحة العالمية للطب الوقائى بالقاهرة، الذى أشار إلى وفاة 14 حالة بعد إصابتهم بإنفلونزا الخنازير«H1N1»، بينهم 4 أطباء، وقال إن عدد الحالات المصابة بالفيروس فى مصر بلغ 45 حالة منذ يناير الماضى.
لا أحد يعرف ما هو مصدر العدوى التنفسية الغامضة وهل لها علاقة بالفعل بإنفلونزا الخنازير التى عادت للظهور بمصر مرة أخرى أم أنها بداية لوباء صحى جديد يخطف أرواح البشر؟ والذى يجب الإنتباه إليه إذا كان عدد الضحايا من الأطباء فى تزايد مستمر فكم هو عدد المرضى الذين ماتوا بسبب هذه العدوى ولم يتم الإعلان حتى الآن عن أرقام رسمية تحدد حجم الكارثة؟
مساكين هم أطباء مصر، لا يعرفون هل يطالبون بحقوقهم المادية المهدرة التى تكفل لهم حياة كريمة أم يطلبون حمايتهم من الموت الذى صار يختطفهم وهم يمارسون عملهم، من المفجع أن تعرف أن بدل العدوى لأطباء مصر يتراوح ما بين 19 جنيها و30 جنيها، بينما يزيد على ألف جنيه للعاملين فى بعض الهيئات غير الطبية، والتى لا تتعرض لظروف المخاطرة التى يتعرض لها الأطباء.
الصورة القاصرة لدى البعض عن الثراء الفاحش للأطباء والاستغراب من شكواهم المستمرة وتهديدهم بالإضراب من أجل تحسين ظروفهم المعيشية والمهنية يجب أن تتغير لدى الناس، فهؤلاء الأطباء الأثرياء قلة لا تتجاوز 5% من أطباء مصر والصورة التقليدية لبعض المستشفيات الخاصة التى تتاجر بالمرضى وتربح منهم دون وجه حق ليست هى الصورة العامة لأطباء مصر الذين لا يجدون حد الكفاف وكل هذه الصور استثناءات.
غالبية أطباء مصر خاصة من الشباب هم فئة محدودة الدخل وتعانى أشد المعاناة بين مسئوليات بدء الحياة وضرورة استكمال التعليم الطبى المكلف ماديا للغاية وبين ضرورة أدائهم لواجبهم الطبي والإنساني فى منظومة صحية منهارة ومصابة بالتكلس، ورغم كل ذلك يعتبر الأطباء المصريون من أمهر أطباء العالم، وفى كل الدول المتقدمة ترى وجوها مصرية مشرفة تقدم صورة رائعة لأطباء مصر.
مجال الاستثمار فى الصحة من أهم مجالات الاستثمار فى العالم ويدر دخلا هائلا للدول التى استطاعت بناء منظومة صحية متكاملة تحترم مقدم الخدمة الطبية وتعتبره ركنا أساسيا فى نجاح المنظومة، أما ما يحدث فى مصر فهو مسكنات وترقيعات للمشكلة الأساسية وأي حديث عن رفع ميزانية الصحة دون وجود منظومة متكاملة ورؤية لما نريد الوصول إليه هو تكريس لإهدار الموارد الذى يتميز به قطاع الصحة فى مصر.
ستتعجب حين تعرف أن بعض دول الخليج أقامت صروحا طبية عالمية على أراضيها يأتى إليها الآن زائرون ومرضى من دول أوروبا وأمريكا للحصول على خدمة طبية متميزة وبتكلفة معقولة جعلت الخدمات الطبية والسياحة العلاجية جزءا من مصادر الدخل لهذه الدول.
نحن نمتلك كل الإمكانات والموارد البشرية اللازمة لبناء منظومة صحية عالمية يستفيد منها المواطن المصرى الذى يأتى ترتيبه فى ذيل الدول التى تقدم خدمات صحية جيدة لمواطنيها، ولكن للأسف مازالت البيروقراطية وغياب التخطيط والعشوائية وتراث الفشل والفساد يقود منظومة الصحة فى مصر التى ستستمر فى الانهيار إذا لم تخرج من دائرة الفشل الموروثة.
لدى مصر عقليات فذة فى مجال الإدارة الطبية وبناء المنظومة العامة، واستفادت كثير من الدول من هذه الشخصيات وكذلك استثمرت بعض قطاعات القطاع الخاص الملايين من الجنيهات عبر الاستفادة من هؤلاء، ولكن الدولة فى مصر مازالت تدير منظومة الصحة بعقلية أصحاب المستوصفات البدائية فى المناطق النائية.
عزائى لأسر الأطباء الذين فقدناهم وعزائى لآلاف المصريين الذين يموتون كل يوم بسبب فشلنا فى بناء منظومة صحية متكاملة تعالج الفقراء والأغنياء على حد سواء وتحترم مقدم الخدمة الطبية سواء كان طبيبا أو تمريضا أو فنيا أو إداريا.
نتمنى أن يصفو الفضاء العام فى مصر من أوجاع السياسة وهرطقة المؤامرات العبثية كمؤامرة فاهيتا وغيرها ليصلح المناخ حينها للنقاش فى ركائز وأركان بناء المنظومة الصحية لمصر وكل الأولويات الحقيقية الأخرى التى تعنى بحياة أفضل للمصريين.
(الشروق)