مقالات مختارة

المشهد العربي في «الذكرى الثالثة»

1300x600
عرفنا أشياء كثيرة كانت كامنة في أعماق مجتمعاتنا. ليس سهلاً أبداً هذا التغيير الذي اقترحته/ فرضته علينا مراحل التحوّل غداة «الثورات». كانت الأنظمة السابقة أقامت التوازنات -أو بالأحرى الاختلالات- التي تناسب إحكام قبضتها على البلاد، وتركت من أسقطوها عناية معالجة تلك الاختلالات للحصول على توازنات جديدة صعبة. فمعها كان الأمن قد تضخّم إلى حدود قصوى، ولم يبقِ أي فسحة للسياسة أو للحرّيات.

ومعها كان «الإسلام السياسي» تحت الأرض أو في المخابئ أو في السجون، وفي أفضل الأحوال تحت الضغط والرقابة الصارمة. ومعها، أيضاً، لم تكن الدساتير والقوانين لتعني شيئاً إزاء إرادة الحاكم، ولا كانت للإنسان أي قيمة. ومعها، كذلك، انحصرت الثقافة في صور الشخص المرفوعة في كل مكان، واقتصر حراكها على أفكاره وخياراته وتخيّلاته والأمزجة التي يمرّ بها. ومعها، أخيراً، كان الاقتصاد وسيلة لحرمان البعض ورشو البعض الآخر، ولا علاقة له بالموارد والثروات والطاقات.

لا أحد يرغب في رؤية تلك الأنظمة المتهاوية ثانيةً لكن ثمة من ترحّم عليها في بعض الأحيان؛ إذ قيل إنها حملت «الاستقرار» مع الاستبداد» ولقمة العيش مع القمع، ومكّنت الأجيال تلو الأجيال من رؤية مستقبلها مرسوماً أمامها حتى في ظل القيود والمهانات. بل قيل إنها كانت لها مسحة من «الوطنية»، وإنها توصلت إلى إدراك ثاقب للتيار الغالب من مجتمعاتها، فهي عرفت لسببٍ مجهولٍ ما كيف تربي جمهوراً متعصّباً في مناوءته للإسلاميين. لذلك قيل أيضاً إنها، حتى بعد سقوطها، لا تزال تحكم أو تحرّك الخيوط، بعدما عادت المواجهة فارتسمت بين الإسلاميين والآخرين الذين لم يُتفق أبداً على حصرهم تحت راية واحدة أو اسم جامع. وهكذا يبدو الأمر كما لو أن هذه الأنظمة كانت «نعمة» لم تشأ شعوبها أن تراها، وبالتالي كما لو أنها ألقت اللعنة على بلدانها قبل أن ترحل.

خيّمت خيبة الأمل، بشكل أو بآخر، على الذكرى الثالثة لثورات العام 2011، وغرقت الشعوب والمجتمعات في حال من عدم اليقين التجريبي. من تونس إلى مصر وليبيا واليمن، أنظمة جديدة متفاوتة الاهتزاز، بعضٌ منها لا يني يحاول استيلاد نفسه بصعوبة، وبعض آخر غارق في فوضى مراوحة بين أن تكون تحت السيطرة أو خارجها، أي أنها جميعا لم تتعرّف بعد إلى ملامحها النهائية. فُتحَت الحريات، نعم، لكن فتحت معها كل أنواع التمايز والانقسام، والتناحر والتنابذ والاحتراب.

 أصبحت السياسة متاحة، نعم، لكنها جبلت بالدم حتى الاختناق. لا يمكن لأحد أن يحدد أياً من البلدان الأربعة أكثر قابلية لأن تبلور استقرارها أولاً. لا شك أن تونس أظهرت ولا تزال تظهر أسبقية في صنع النماذج، منذ اشتعال ثورتها حتى انتخاب مجلسها التأسيسي وصولاً إلى الانكشاف الاقتصادي والمالي ثم العنف والاغتيال السياسيين فالأزمة التي عصفت بأول حكومة يهيمن عليها الإسلاميون وأخيراً تغليب الحوار وتسليم الحكم إلى «المحايدين»، لكن مصر التي كانت أكثر سرعةً في انتخاب أول مجلس تشريعي وأول رئيس للجمهورية، بعد الثورة»، كانت أيضاً الأكثر سرعة في عزل ذلك الرئيس وحل ذلك المجلس، لتعود إلى البحث عن طريقها منزلقة إلى إقصاء من المجتمع، وإلى أسوأ انقسام يشهده مجتمعها في تاريخها الحديث.

لكن الحال السورية تبقى الأشد إيلاماً، ليس بما يقارب المليون من أبنائها بين قتيل وجريح ومفقود ومخطوف ومعتقل فحسب، ولا بما يقارب ثلثي سكانها بين مهجّر في الداخل ونازح في الخارج فحسب، ولا بمئات الآلاف المحاصرين الذين يفتك بهم الجوع والبرد فحسب، بل خصوصاً برسوخ استحالة التعايش بين فئات الشعب، وبتغلغل سوسة «الإرهاب الجهادي» لمؤازرة «إرهاب الدولة والنظام» في إجهازه على آخر ما تبقى من مقوّمات بلد قابل للعيش ولإعادة الإعمار وللتنمية. كان لبنان والعراق وفّرا نموذجين لبلدين منكوبين التحقا بفلسطين المنكوبة، والثلاثة مع سوريا هي الشواهد الأربعة على حضارة تعايش الأديان في المشرق، فإذا بها تصبح مواقع لاحتضار تلك الحضارة.

وقد قيل إن لبنان والعراق وفلسطين عرفت على نحو مبكر تجاربها العنيفة سواء بالحرب الأهلية أو بالغزو الأجنبي أو بالاستعمار الصهيوني. وأمكن تجاوز الحرب الأهلية عبر صيغة استطاعت الحفاظ على تعايش الفئات في لبنان لكن «الاستعمار الأخوي» السوري كان أشد إفساداً، كما أمكن الحصول على انسحاب القوات الأميركية من العراق لكن الغزو المذهبي الداخلي يبدو أكثر تخريباً، ولم يمكن التخلص بعد من الاحتلال الصهيوني لكن الانقسام شكّل المحنة الأكبر للشعب الفلسطيني. وفيما تتعاظم مخاطر التفتت في سوريا نراها تنعكس على جيرانها الثلاثة تفتيتاً أيضاً وتقسيماً.

ولتكتمل الصورة لا بدّ من النظر إلى الحالين الليبية واليمنية، فهما تعطيان أكثر من إشارة وإنذار في اتجاه ما يسمونه الفدرلة أو الأقاليم الكثيرة في إطار «الوحدة». هذه أوطان ينبغي الكثير من العمل والكدّ لإعادة ترميم أشلائها، ولو كانت الوحدة لا تزال ماثلة في الأذهان لما أُعملت في خرائطها سكاكين الجرّاحين ولما دُفعت بمشاريع الأقلمة والتفتيت إلى طاولات الحوار. وحيثما يصبح التفتيت سبيلاً وحيداً لصنع شيء من «السلام» نجد أن تنظيم «القاعدة» قد بات شريكاً فارضاً نفسه كما لو أنه أدرك أخيراً وظيفته التي ولد من أجلها. ليس صدفةً أنه وباء تعاني منه البلدان المتحوّلة بعد الثورات.

 ففي استخدامه الإسلام سعياً إلى محاربة الهيمنة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي لم يسئ فقط إلى تيارات الإسلام السياسي كافةً بل ألحق الإساءة الأكبر بالإسلام ذاته.

(العرب)