مقالات مختارة

المالكي بين الأجندة الإيرانية والنصائح الأميركية

1300x600
تضافرت أحداث الأنبار ومذكرات وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت جيتس لإعادة العراق إلى الجدل الأميركي الداخلي، لكن من دون أن يتجاوز النقاش والتراشق باتهامات الضعف والتقاعس بين إدارة باراك أوباما وخصومه الجمهوريين، لم يطرح أحد فكرة إرسال قوات أو زيادة درجة التدخل.

 فالمعركة مع تنظيم «الدولة الإسلامية للعراق والشام» (داعش) هي «شأن عراقي داخلي»، كما قال وزير الخارجية جون كيري الذي أكد بالتزامن مع نائب الرئيس جو بايدن «دعم» الحكومة العراقية، وهو دعم لم يبقَ لفظياً فحسب بل أرفق بتوفير مروحيات مراقبة واستطلاع وصواريخ متطورة، فيما يجري البحث في تقديم طائرات من دون طيار للمساعدة في تصفية عناصر التنظيم.

كانت هناك دوافع أكثر من كافية لتبرير قرار شنّ حملة مفتوحة ضد «داعش»، لكن كان يلزم لمثل هذا القرار حكومة غير حكومة نوري المالكي التي باتت تفتقد الشرعية بعدما أثبتت عدم نزاهتها في التعامل مع المناطق والمواطنين وفقاً للهوية المذهبية؛ لذلك أعرب مسؤولون أميركيون عن القلق من استغلال المالكي ظروف الحرب على «داعش» ليسحق في الوقت نفسه حراك الاحتجاجات التي عمّت المحافظات السنّية.

 وهذا قلق لا يعني شيئاً طالما أنه لا يملك وسائل الضغط على بغداد، ثم إنه يأتي بعد إهمال التدخل المفيد لمعالجة أسباب الاعتصامات السنّية التي بدأت في ديسمبر 2012 ولم يقدّم خلالها المالكي أي مبادرة تعبّر عن جدّية أو استعداد لتحمّل المسؤولية في إنهاء أزمة داخلية كان هو شخصياً وراء اندلاعها.

لم يُحسن المالكي ولا حزب الدعوة الذي ينتمي إليه ولا الأجندة الإيرانية التي تديرهما أن يتعاملوا مع المعتدلين إلا بالسعي إلى اختراقهم وبث الفرقة فيما بينهم، إلا أنهم أحسنوا استخدام المتطرفين، وطبقّوا في العراق عملياً الخطة التي رسموها لسوريا بالتنسيق مع نظام بشار الأسد. فالفكرة الجهنمية هي أن الوسيلة الفضلى للتعامل مع الحراك الشعبي تكون باستفزازه واستعمال الشدّة معه ما يختلق بيئة جاهزة لبروز الجهاديين في أوساطه، ثم اصطناع ضجة خارجية للقول إن خيام الاعتصام الاحتجاجي تحوّلت معسكرات للإرهابيين، وبالتالي وجب ضربها وتفكيكها. فمَن يصنع الإرهاب هنا؟ لا أحد يستطيع الإجابة بوضوح طالما أن الأدوار والأدوات تمازجت ودخل بعضها ببعضٍ.

لكن المؤكد أن الجهة التي تمثّل «الدولة» تعتبر نفسها المخوّلة القضاء على الخطر واستعادة الأمن. هذا ما يحاول المالكي إثباته لاصطياد أهداف عدّة برمية واحدة: 1) استدراج أسلحة نوعية لضرب الإرهاب، 2) انتهاز مجريات الحرب لضرب المعارضين ومطالبهم، 3) تجيير هذين الإنجازين والاستناد إليهما في ترتيب ظروف البقاء في السلطة لولاية ثالثة.

 لا شك أن هناك فارقاً بين ما يواجهه كلٌ من المالكي والأسد، فالأول لديه حراك بدأ سلمياً واستمر كذلك، وأمامه مطالب واضحة تُختصر بأن أصحابها يريدون وقف التمييز ضدهم سواء بتعديل الدستور لإنصافهم أو في تنفيذ القوانين أو في اعتماد الميزانيات الحكومية. أما الآخر فكان لديه أيضاً حراك سلمي لكنه دفع باتجاه عسكرته، ظناً بأنه سيتمكّن من القضاء عليه بسهولة، وعندما عجز عن ذلك استعان بميليشيات «حزب الله» اللبناني و»أبو فضل العباس» العراقية، وكلاهما يأتمر بإيران.

 وإذ يتّبع الأسد والمالكي حالياً سيناريو إيرانياً واحداً لإدامة حكميهما، فإن الأول يتطلّع أيضاً إلى «حرب على الإرهاب» علّها تسعفه لضرب معارضيه وتنقذ نظامه فتشكّل نهاية للأزمة المستمرة في سوريا منذ 3 أعوام؛ لذلك فهو يراهن الآن على مؤتمر «جنيف 2» آملاً في تحويل أولويته من البحث عن حل سياسي إلى ترتيب يعتمد خصوصاً على قواته لضرب الإرهاب.

غير أن الأمر الواقع ما لبث أن فرض نفسه على المالكي، إذ إن سلوكه وسلوك قواته وميليشيا حزبه لا تؤهلهم لدخول مناطق يستعدونها حتى بداعي محاربة تنظيم «داعش» الذي برهنت البيئات السنّية كافة أنه لا يمثّلها ولا تتمسّك بوجوده، وأنه باستغلاله احتجاجاتها قتل أيضاً العديد من قادتها؛ لذلك وجد المالكي أنه أمام وضع لا يمكّنه من التراجع، ففضّل الاستعانة بالعشائر التي تولّت مطاردة «الداعشيين» واكتفى الجيش بمؤازرتها محاذراً دخول المدن، رغم ما يشكّله ذلك من خسارة لـ «الدولة» ومكانتها.

 فالعشائر تحمي مصالحها وأهلها، ومن الواضح أنها لا تثق بالمالكي والجيش الذي يعمل بإمرته. من هنا إن وضعاً دقيقاً قد نشأ، فبعد أن تتوصّل العشائر إلى طرد «داعش» الذي لا تستطيع عناصره البقاء في بيئة لا تقبلها ولا تحتضنها، قد ينشب القتال بين العشائر وقوات المالكي. فهذا وارد ومحتمل.

لا يبدو أن في الأجندة الإيرانية ما تنصح المالكي به لمواجهة مثل هذا الوضع، فهو أكثر من التصريحات التي يعلن فيها «النصر على الإرهاب» ولا شيء آخر؛ لذلك تحدثت الأنباء عن نصائح أميركية أسداها إليه بايدن، وهي مشابهة لتوصيات ألحّ بها قادة عسكريون وسياسيون أميركيون على المالكي طوال عامين سبقا انسحابهم النهائي أواخر 2011 لكنه أدار إليها أذناً صماء.

 وتدعو واشنطن إلى وجوب طرح حلول سياسية واقتصادية لمطالب المحافظات السنّية، لكن هذه تتطلّب من المالكي أن يقدّم تنازلات تهرّب منها منذ 2010 ولا يزال يتجنّبها، ثم إنها لا تعني بالنسبة إليه أنه «انتصر» أيضاً على مناوئيه بل إن الحرب على «داعش» لن تحقق له عندئذ الأهداف التي وضعها للحملة.

 واقعياً لا يحتاج المالكي إلى نصائح أميركية أو غير أميركية، وإنما يحتاج إلى الاحتكام لعقله ووطنيته ولحسّ الدولة الذي يكسبه بعد.

(العرب)