كشفت وثائق حصلت عليها "عربي21" عن تفاصيل مثيرة في قضية إغلاق المركز الثقافي الإسلامي بإيرلندا، التي ما زالت تتفاعل منذ أشهر داخل أروقة القضاء.
وبحسب ما اطلعت عليه "عربي21"، فإن القضية أخذت منحى آخر بعد أن تبيّن أن الأزمة لم تكن مجرد خلاف إداري، بل نتيجة مباشرة لتدخل إماراتي منسّق قاد إلى تزوير محاضر رسمية واستبدال مجلس الإدارة الشرعي للمركز، بأعضاء جدد جرى تعيينهم بإيعاز من مكتب حاكم 
دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.
خلفية عن المركز
المركز الثقافي الإسلامي في دبلن، الذي افتُتح عام 1996 على أرض منحتها الحكومة الأيرلندية دعمًا للجالية المسلمة، يعدّ اليوم أكبر مؤسسة إسلامية في البلاد. وقد تأسس بدعم مالي من الشيخ الراحل حمدان بن راشد آل مكتوم (شقيق حاكم دبي)، عبر "مؤسسة آل مكتوم الخيرية"، لتقديم الخدمات الدينية والتعليمية لمسلمي إيرلندا.
لكن هذه العلاقة التمويلية، التي بدت لعقود ودّية وبعيدة عن السياسة، تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى أداة وصاية وإدارة من الخارج. 
وقالت مصادر لـ"عربي21" إنه مع غياب الوضوح في طبيعة ملكية المركز، استغلت أطراف إماراتية ثغرات قانونية داخل مجلس الإدارة لفرض سيطرة إدارية جديدة تحت غطاء "التنظيم المالي والإداري".
استقالة واحدة فتحت الباب
في آب/ أغسطس 2023، استقال أحد أعضاء مجلس إدارة المركز، ليبقى في المجلس فقط عضوين هما عبدالباسط السيد (إيرلندي الجنسية) وميرزا الصايغ (مدير مكتب سابق للشيخ مكتوم، وشخصية إماراتية نشطة في أوروبا).
وبحسب القانون الأيرلندي، لا يمكن إجراء أي تعديل في مجلس الإدارة دون توقيع الطرفين. وفي وقت سابق، كانت توصيات مدققي الحسابات قد أشارت إلى ضرورة وجود مديرين مقيمين في إيرلندا لضمان هيكل حوكمة مناسب، وهو ما استغله الصايغ لتبرير التغيير لاحقاً.
غير أن الصايغ، وفي خطوة وُصفت داخل المركز بـ"الانقلاب الإداري"، انفرد في حزيران/ يونيو 2024 بتعيين خمسة أعضاء جدد، وهم: أحمد طحلاك، هشام عبد الله القاسم، خليفة الدبوس، محمد مصبّح ضاحي، ورجل الأعمال الباكستاني المقيم في دبي زاهد جميل، دون علم أو موافقة شريكه عبدالباسط. 
ولإضفاء طابع قانوني على هذا التغيير، تقول الوثائق المقدمة للقضاء، والتي اطلعت عليها "عربي21"، إن الصايغ قدّم محاضر اجتماعات مزوّرة إلى مكتب تسجيل الشركات الأيرلندي (CRO). وقد تضمنت المحاضر المزورة ادعاءً صريحاً بأن الدكتور عبدالباسط السيد حضر الاجتماع عبر "زووم"، بينما لم يُعقد أي اجتماع في الواقع.
الأوامر جاءت من دبي
التحقيق القضائي في القضية، المنظور أمام المحكمة العليا الأيرلندية، كشف تفاصيل أكثر خطورة.
فوفقًا لمذكرة قانونية موقعة بتاريخ 11 تموز/ يوليو 2025، أقرّ محامو المركز أن التعيينات جرت بناء على تعليمات مباشرة من "مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للأعمال الخيرية والإنسانية" في دبي (الكيان الاعتباري في دبي). وقد أصدر هذا الكيان تعليمات مكتوبة لميرزا الصايغ لتعيين بعض الأعضاء، ثم تعليمات شفوية لتعيين البقية.
الوثيقة، التي حصلت عليها "عربي21"، تصف ما حدث بأنه "corporate crime" – جريمة مؤسسية كاملة الأركان، مؤكدة أن مؤسسة أجنبية "تدخلت بشكل غير قانوني في إدارة شركة مسجلة في أيرلندا"، وأن المحاضر المزوّرة استخدمت "كأداة احتيال إداري لتثبيت نفوذ خارجي داخل المركز".
للاطلاع إلى الوثيقة القضائية (هنا)
محاولة الحصول على بيانات شخصية
بحلول شباط/ فبراير 2025، بدأ العضو المعيَّن حديثًا زاهد جميل بممارسة صلاحياته الجديدة، وطالب إدارة مدرسة نور الهدى القرآنية التابعة للمسجد بتسليمه بيانات شخصية حساسة للطلبة وأولياء الأمور، تتضمن أرقام الهواتف والعناوين.
إدارة المدرسة رفضت الطلب فورًا، معتبرةً أنه خرق صريح لقانون حماية البيانات الأيرلندي (GDPR)، الذي يُعد من أشد قوانين الخصوصية في أوروبا. هذا الرفض كان الشرارة الأولى للصدام بين الجالية والإدارة الجديدة التي فرضها الصايغ.
تقول إحدى المدرّسات “لم يكن الطلب بريئًا. شعرنا أن الهدف هو جمع قاعدة بيانات لأغراض لا علاقة لها بالمدرسة ولا بالمركز، وهذا ما أثار غضب الأهالي.”
التضييق على الأهالي والطلبة
ردّ الإدارة الجديدة كان حادًا. فخلال أسابيع، فُرضت قيود مشددة على دخول الأهالي إلى ساحة المدرسة الواقعة داخل حرم المسجد، وأجبروا على تسليم أطفالهم واستلامهم من الشارع العام خارج البوابة.
كما مُنع الطلبة من استخدام مرافق المسجد، بما في ذلك الحمامات وأماكن الوضوء، بل ومنعوا من أداء الصلاة داخل المصلى نفسه، ما اضطرهم للتيمم والصلاة في العراء وسط الساحة الخارجية.
 هذه الإجراءات اليومية خلقت ازدحامًا وفوضى أمام بوابة المركز، وتسببت بتذمّر الجيران الأيرلنديين الذين اشتكوا للسلطات من "الفوضى الصباحية المتكررة"، ما ضاعف الضغط على المجتمع المسلم، حيث تم البدء بمخالفة المركبات التي تنتظر الطلاب.
 
إغلاق بذريعة أمنية
في نيسان/ أبريل 2025، أعلنت الإدارة الجديدة إغلاق المركز "مؤقتًا" بدعوى وجود "أسباب أمنية وتنظيمية". وقد استغلت الإدارة حادثة مشاجرة جسدية وقعت بين عدد من المصلين في اجتماع بالمركز يوم 19 نيسان/ أبريل، حيث اضطرت الشرطة للحضور لفض النزاع. ووصفت الإدارة الحادثة في إعلان على البوابات بأنها "هجوم غير مسبوق ومثير للقلق للغاية على المسجد وأعضاء مجلس الإدارة".
وشمل قرار الإغلاق المسجد والمدرسة ومغسلة الموتى الإسلامية الوحيدة في دبلن.
إغلاق المغسلة، التي تخدم آلاف المسلمين سنويًا، شكّل صدمة للجالية، إذ اضطر الأهالي إلى استخدام مرافق مخصصة لغير المسلمين لتغسيل موتاهم.
وفي محاولة لتأطير الصراع، اتهمت الإدارة الجديدة الجناح المناوئ لقراراتها بأنه "جناح راديكالي" وذو "ميول متطرفة" يحاول "إسكات الأصوات المعارضة". 
ونُقل عن شخص مرتبط بالإدارة قوله: "هذا المجلس يرى أنه لا يمكن التسامح مع التطرف. وبدلاً من ذلك، نود أن نصور الجوهر الحقيقي للإسلام"، مما يشير إلى أن الإغلاق كان جزءاً من صراع أيديولوجي للسيطرة على الخطاب الديني.
نزاع أمام المحكمة العليا
في أيار/ مايو 2025، وبعد انتشار أخبار قرب رفع الدكتور عبدالباسط السيد دعوى قضائية، حاول ميرزا الصايغ التوقيع على وثيقة تفيد بإقالة السيد من مجلس الإدارة. لكن هذه المحاولة لـ"عرقلة العملية القضائية" باءت بالفشل؛ فقد أقدم الصايغ على تقديم استقالته هو الآخر بعد حوالي 12 دقيقة فقط من محاولته إقالة عبدالباسط السيد، وهو ما كان سيترك الشركة دون مدير شرعي، في مخالفة صريحة لقانون الشركات الأيرلندي.
ونتيجة لذلك، أصبحت إقالة عبدالباسط السيد باطلة، وعاد هو ليكون المدير الشرعي الوحيد للشركة اعتباراً من 26 أيار/ مايو 2025، مما منحه الأهلية القانونية الكاملة لرفع الدعوى باسم المركز.
ومع تفاقم الأزمة، قدّم السيد دعوى قضائية أمام المحكمة العليا، مطالبًا بإلغاء تسجيل الأعضاء الخمسة الجدد في مكتب الشركات وإبطال قراراتهم، وعلى رأسها قرار الإغلاق.
وتؤكد المذكرة القانونية المرفوعة للمحكمة أن الصايغ استخدم سلطة حاكم دبي كغطاء لشرعنة التزوير، وتصف التعيينات بأنها "باطلة قانونيًا لأنها تمت دون قرار من مجلس أو جمعية عمومية، ودون علم الأعضاء الشرعيين". 
وفي المقابل، تحدّى محامو المؤسسة 
الإماراتية شرعية تنصب عبدالباسط نفسه كمدير، مؤكدين أن ولايته قد انتهت، وهو هجوم قانوني مضاد يهدف لتعطيل سير الدعوى.
ويطالب الادعاء الأيرلندي المحكمة بإصدار أمر بإزالة أسماء الأعضاء الخمسة من سجل الشركات، ومنعهم من تمثيل المركز مستقبلاً.
القضية، التي تحظى بمتابعة في أوساط الجالية الإسلامية الأيرلندية، كشفت جانبًا من النفوذ الإماراتي في إدارة المراكز الإسلامية بأوروبا. ففي السنوات الأخيرة، توسّعت أبوظبي ودبي في تمويل وإنشاء مساجد ومؤسسات خيرية في أوروبا، لكنها بحسب مصادر من الجالية المسلمة تحدثت لـ"عربي21"، تسعى من خلالها إلى التحكم بالخطاب الديني والسياسي داخل الجاليات المسلمة، خصوصًا في القضايا المرتبطة بالإسلام السياسي.
انتظار الحكم وإغلاقٌ مستمر
حتى لحظة إعداد هذا التحقيق، ما يزال المركز مغلقًا منذ سبعة أشهر، فيما تواصل المحكمة العليا النظر في ملف "التزوير" المقدم ضد مجلس الإدارة الحالي.
ولم يصدر عن الإمارات، أو مكتب حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم أي توضيح حول الاتهامات الموجهة إليهم بالتدخل في القضية.
وتتواصل الحملات المجتمعية، بما في ذلك عريضة احتجاجية جمعت آلاف التوقيعات، للمطالبة بإعادة فتح المركز "تحت إدارة الجالية لا بأوامر خارجية".
ويُتوقّع صدور الحكم الأولي في نهاية العام الجاري (2025)، والذي سيحدد مصير الإدارة الإماراتية الجديدة ومستقبل المركز ذاته.