بين المنازل العالية الكبيرة والفخمة الموجودة في شارع سكني، تقع كنيسة بيتانيا التي بالكاد ينتبه المارة لوجودها لولا وجود لافتة تشير لمدخلها، وبابها الأحمر الفاقع ونوافذها الزجاجية الملونة ذات الزخرفة الدينية.
خلف جدرانها المبنية بالطوب الرمادي، توجد أبرشية القس توني بيريز، وهي كنيسة إنجيلية ناطقة باللغة الإسبانية يبلغ عدد أتباعها حوالي 200 مؤمن. وقد صوت معظمهم خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة لصالح دونالد
ترامب على الرغم من مواقفه وتصرفاته وتصريحاته التحريضية ضد
المهاجرين اللاتينيين. وهي ذنوب أظهر المرشد الروحي في هذه الأبرشية وأتباعه تسامحا كبيرا حيالها.
يقول القس الذي ينحدر من أصول بورتوريكية بنظرة لطيفة وابتسامة متعاطفة: "لو اشتعلت النار في منزلك، فلن يهمك من سيكون رجل الإطفاء أو ما يفعله في وقت فراغه. تريد فقط أن يتم إخماد الحريق. بالنسبة لي، كان بلدنا يحترق، احتجت إلى أفضل إطفائي لإخماده، وأعتقد أنه دونالد ترامب".
رفض "أيديولوجية النوع الاجتماعي"
في كنيسة توني بيريز، يبقى الخط الفاصل بين الدين والسياسة رفيعا، لأن المبادئ الأخلاقية هنا تشكل أساسا بالنسبة إلى أبرشيته. وهو يقول: "نحن مؤيدون للحياة. أنا لا أنتخب سوى من أجل الحياة، ومن ثم ضد الإجهاض والموت الرحيم. أنا ضد إيديولوجية النوع الاجتماعي. نحن واضحون حيال هذا في خطاباتنا، دون أن نشير صراحة إلى من سيذهب التصويت".
على النقيض من هذا الموقف، وعلى بعد بضعة شوارع فقط، نجد كنيسة تبنت أفكارا مختلفة للغاية، إذ إنها ترفع علم قوس قزح مع رسالة: "الله يتكلم دائما".
يعلق توني بيريز قائلا: "إنهم يستضيفون قداسا للمثليين جنسيا ومزدوجي الميل الجنسي والمتحولين، أعتقد بأن لديهم قسيسة مكسيكية مثلية الجنس". يؤكد القس أن هذا لا يعني وجود توتر مع جيرانه على الرغم من انعدام أي تواصل حقيقي بين الجانبين.
مع تمسكهم بالقيم التقليدية، ينظر بعض الناخبين من أصول لاتينية بعين الشك والريبة إلى سياسة الانفتاح تجاه الأقليات الجنسية التي يدعو إليها الديمقراطيون. يقول توني بيريز: "نحن نعتبر بأن القيم الأخلاقية يجب أن تنتقل عن طريق الوالدين"، مقارنا ما يسميه "أيديولوجية النوع الاجتماعي" بمسألة "الطائفة الدينية".
تخفيض الضرائب ودعم رجال الأعمال
في قطاع المال والأعمال، اعتبر مايكل ريفيرا، الذي أصبح في 2020 أول ممثل من أصل إسباني عن مقاطعة بيرك التي تضم مدينة ريدينغ، بأن "الهسبانيين (أي الأمريكيين من أصل لاتيني) محافظون للغاية، إذ إن الإيمان مهم جدا بالنسبة إليهم وهي قيمة يدافع عنها الحزب الجمهوري".
بالنسبة إلى هذا الرجل المحافظ، يمكن تفسير صعود دونالد ترامب خصوصا استنادا إلى الصعوبات الاقتصادية التي واجهها مجتمعه خلال السنوات الأخيرة، والتي ينتمي جزء كبير منها إلى الطبقات الشعبية. ويشرح ذلك بقوله: "رأينا لأول مرة كيف أصبحت عائلات كاملة بلا مأوى. ينحدر معظمهم من الطبقة العاملة، لكن وسط ارتفاع الأسعار، وجدوا أنفسهم مضطرين للاختيار بين إصلاح السيارة أو دفع الإيجار".
وأضاف مايكل ريفيرا: "لم يعد الناس يكسبون نفس ما كانوا يكسبونه قبل ثلاثة أو أربعة أعوام. ارتفعت أسعار المواد الغذائية. ارتفعت أسعار المنازل. ارتفعت أسعار الغاز وغيره من الخدمات العامة. وتدهور مستوى معيشة الأشخاص، لأن الرواتب لم تواكب" كل تلك الزيادات.
في الواقع، وعلى الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي واصل النمو بوتيرة مستمرة خلال عهد الرئيس جو بايدن، لكن البلاد لم تفلت من موجة التضخم التي شهدتها عدة بلدان في أعقاب جائحة فيروس كورونا.
في المقابل، تعهد دونالد ترامب بخفض التضخم عبر فرض رسوم جمركية على البضائع الأجنبية. إجراء حذر خبراء من أنه قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار المنتجات المستوردة. على الرغم من ذلك، لا يكترث مايكل ريفيرا وهو حتى لا يفهم طريقة عمل هذه الآلية الاقتصادية بالكامل، لكنه يؤمن بالإعفاءات الضريبية على الرواتب والشركات التي وعد بها المرشح الجمهوري.
"الظلم" حيال قضية الهجرة
أشرف جوزيف نونيز، وهو أمريكي ينحدر من أصل بورتوريكي التقيناه برفقة صديقين له بمقهى كولومبي وسط مدينة ريدينغ، على حملة نشطة في صفوف مجتمعه لفائدة دونالد ترامب. فبالرغم من أن هذا الرجل البالغ من العمر 40 عاما نشأ في أحضان عائلة ديمقراطية، إلا أنه لم يتوان عن قلب عباءة انتمائه السياسي بشكل كامل بعد حادثة شخصية مؤلمة تعرض لها خلال رئاسة باراك أوباما.
ويروي نونيز: "تزوجت امرأة من غواتيمالا. لدى عودتنا من شهر العسل، ألغت السلطات الأمريكية تأشيرتها ورحلتها إلى بلادها. وجدت نفسي مضطرا للتخلي عن كل شيء هنا واللحاق بها". وعلى الرغم من أنه تمكن في نهاية المطاف من إعادة زوجته إلى الولايات المتحدة، لكنه لا يزال يشعر بالمرارة الشديدة بسبب تلك الحادثة، وهو يقول: "ليس لدينا أي شيء ضد الأشخاص من دون وثائق، لكننا لسنا راضين عن الإدارة الفوضوية للهجرة في هذا البلد".
في الحقيقة، تميزت رئاسة بايدن بزيادة حادة في أعداد المهاجرين غير الشرعيين القادمين إلى الولايات المتحدة. فمن 1,9 مليون شخص في 2021، ارتفع العدد إلى 2,9 مليون في 2024، حسب وزارة الأمن الداخلي الأمريكية. أثار ذلك موجة انتقادات من المحافظين الذين اتهموا الديمقراطيين باتباع سياسات متراخية.
في ظل تلك التطورات، تفاقمت الهجمات ضدهم خصوصا بعد تسرب شائعة مفادها أن المهاجرين غير الشرعيين يستفيدون من مساعدة مالية شهرية قدرها 2200 دولار. وعلى الرغم من نفيها من الصحافة عدة مرات، إلا أن أنصار ترامب يؤمنون بها.
"الرجولة" للحكم وفرض الاحترام
منذ تجربته المؤلمة مع الهجرة، اقتحم جوزيف نونيز عالم السياسة تحت لواء الحزب الجمهوري. حتى أنه أصبح في 2023 أول مرشح جمهوري من أصل لاتيني يترشح لمنصب عمدة مدينة ريدينغ. لكن المرشحة الديمقراطية إيدي موران، المتحدرة من المجتمع اللاتيني، فازت بتلك الانتخابات.
وعلى الرغم من أنه يعلق آمالا كبيرة على ترامب، يعترف نونيز بأنه تأذى لمرات عدة بسبب تجاوزات الرئيس الأمريكي الذي وصف المهاجرين على الحدود الجنوبية "بالإرهابيين" والرجال المكسيكيين "بالمغتصبين". حتى أن نونيز يؤمن على الرغم من كل شيء بأن أمريكا يجب أن يقودها "رجل قوي" قادر على فرض الاحترام.
يقول جوزيف نونيز: "لا زلنا رجالا، أليس كذلك؟ نريد أن نكون رجالا قادرين على الأخذ بزمام المبادرة وعلى تحسين حياة عائلاتنا. لن نكون قادرين على العيش إن كان رئيس ضعيف هو من يقود أكبر اقتصاد بالعالم". وفي المجتمع اللاتيني، تشاطره وجهة النظر هذه النساء أيضا، حتى ولو كان أغلب أنصار ترامب هم من الذكور.
في كنيسة القس بيريز، أثنت إستيفانيا تايلر، وهي مؤمنة من أصل إكوادوري، بشخصية الرئيس الأمريكي الجديد. بحماسة تقول هذه الشابة التي وصلت طفلة إلى الولايات المتحدة مع عائلتها: "نحن في حاجة إلى زعيم قوي، ربما لأنني لاتينية، لكنني أحب أن يكون (الرئيس) رجلا يتمتع بالسلطة".
وتضيف: "حين تلفظ بإهانات ضد المهاجرين، فهمت فورا أنه كان يقصد المجرمين وليس كافة اللاتينيين. صدمني تصرفه بدرجة أقل بكثير من الموقف المتعجرف لمعسكر كامالا هاريس. فهي لا تفهم ثقافة الشعب. ربما تلك الخاصة بالكاليفورنيين، أو بالنخب، لكن ليست تلك الخاصة بالشعب. وجدتها متعالية جدا، وكأنها كانت تعلم أحسن منا ما يجب لنا أن نؤمن به أو لا".
تذكرة بلا عودة
يمثل هذا الحماس المتزايد لصالح دونالد ترامب ثورة صغيرة داخل مجتمع الأمريكيين اللاتينيين، الذي كان حتى الآن منحازا إلى حد كبير لمعسكر الديمقراطيين. حتى إن الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان سبق وأن تنبأ بمثل هذا التقارب منذ عام 1980 عندما قال قبل عام من انتخابه: "اللاتينيون جمهوريون، لكنهم لا يعرفون ذلك بعد".
وبالنسبة إلى اللاتينيين الذين تحولوا إلى ما بات يسمى بـ"الترامبية"، فإن هذه النقلة لم تكن سهلة. كثيرون هم من قالوا إنهم خسروا أصدقاءهم وأحيانا حتى عائلاتهم بسبب انضمامهم إلى المعسكر الجمهوري.
يروي القس توني بيريز: "اعتقد اللاتينيون لزمن طويل بأن الديمقراطيين كانوا خيارهم الوحيد. كانوا يظنون أن الحزب الجمهوري، المحسوب على الأثرياء البيض، لم يكن بكل بساطة لهم". ويضيف: "لكن الآن وبعد أن خطوا هذه الخطوة، فلن يكون هناك تراجع إلى الوراء. إلا في حال كانت نتائج دونالد ترامب على الصعيد الاقتصادي سيئة للغاية".
ويخلص قس كنيسة بيتانيا بالقول إن "الديمقراطيين لم يفهموا أن هذه الانتخابات لم تكن مخصصة للاتينيين، السود أو البيض. كانت هذه الانتخابات خضراء، مثل الدولار".