قضايا وآراء

فرنسا والجنائية الدولية: هل تظل وفية لمبادئ الثورة الفرنسية في قضية نتنياهو؟

"تراجعت فرنسا عن التزاماتها تجاه المحكمة الجنائية الدولية"- جيتي
تتميز العلاقات بين فرنسا وإسرائيل بالتعقيد والتذبذب، حيث تختلط بين المصالح الاستراتيجية من جهة، والتنافر من جهة أخرى.
كانت فرنسا تحاول أداء دور "موضوعي" في عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتشارك في المبادرات الدولية الرامية لتحقيق الاستقرار في المنطقة. ومع ذلك، لم تخْلُ العلاقة من التوترات التاريخية، مثل قرار الرئيس الفرنسي شارل ديغول حظر مبيعات الأسلحة لإسرائيل بعد حرب 1967، ما أدى إلى تآكل الثقة بين الطرفين. وعلى الرغم من ذلك، تعمل فرنسا على الحفاظ على توازن دقيق بين دعم شراكاتها الاقتصادية والأمنية مع إسرائيل ودعمها المعلن لحقوق الفلسطينيين، بما في ذلك حل الدولتين. هذا التناقض، يجعل علاقتها مع إسرائيل محكومة بمزيج من المصالح الاستراتيجية والقيم المعلنة.

فرنسا، التي تعهدت سابقا بالالتزام بقوانين المحكمة الجنائية الدولية، تراجعت عن هذا الالتزام فيما يتعلق بتسليم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. في البداية، أظهرت فرنسا احترامها لسلطة المحكمة، لكنها عادت لتؤكد أن نتنياهو يتمتع بالحصانة؛ نظرا لأن إسرائيل ليست طرفا في نظام روما الأساسي. هذا التراجع أثار انتقادات واسعة من خبراء ومحللين سياسيين، الذين وصفوه بأنه انحراف خطير عن التزامات فرنسا الدولية.

المحكمة الجنائية الدولية كانت قد أصدرت مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ومسؤولين آخرين بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مما زاد من الضغط على الدول الأعضاء للوقوف إلى جانب قرارات المحكمة. ومع ذلك، فإن الموقف الفرنسي يثير تساؤلات حول مدى جديتها في دعم العدالة الدولية، خاصة في ظل التحديات السياسية التي تواجهها على الساحة الإقليمية والدولية.

تواجه فرنسا اليوم تحديات كبيرة تتعلق بمصداقيتها الدولية، حيث يُنظر إلى بعض مواقفها على أنها تناقض بين المبادئ والمصالح، وتراجعها عن تنفيذ قرارات المحكمة الجنائية الدولية، مثل موقفها من مذكرة اعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يعكس ازدواجية في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان.

تحلل فرنسا من التزاماتها الدولية: بين الإرث التاريخي والتحديات الراهنة

لطالما ارتبط اسم فرنسا بالدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيز العدالة الدولية، مستندة إلى إرث الثورة الفرنسية التي أرست مبادئ الحرية والمساواة والعدالة في عام 1789. شكل "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" حجر الأساس في القانون الدولي الحديث، وأسس لدور فرنسا القيادي في تطوير العدالة الدولية. عبر عقود، كانت فرنسا في طليعة الدول التي ساهمت في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، كما دعمت إنشاء مؤسسات دولية مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.

من خلال هذا الالتزام التاريخي، أدت فرنسا دورا محوريا في محاكمات دولية كبرى، مثل دعم المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بعد النزاع في البوسنة والهرسك، ومحاكمة المسؤولين عن الإبادة الجماعية في رواندا، ودعم الجهود الدولية لمحاسبة مرتكبي الجرائم في دارفور. وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي، عملت فرنسا على تعزيز السياسات المتعلقة بحقوق الإنسان، مما جعلها قوة دافعة للعدالة الدولية.

ومع ذلك، تواجه فرنسا اليوم تحديات كبيرة تتعلق بمصداقيتها الدولية، حيث يُنظر إلى بعض مواقفها على أنها تناقض بين المبادئ والمصالح، وتراجعها عن تنفيذ قرارات المحكمة الجنائية الدولية، مثل موقفها من مذكرة اعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يعكس ازدواجية في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان. هذا التراجع لا يضعف فقط صورة فرنسا كرمز عالمي للعدالة، بل يشجع دولا أخرى على التملص من التزاماتها الدولية، ويُشجع على الإفلات من العقاب.

فرنسا، التي لطالما حملت شعلة العدالة الدولية، تجد نفسها اليوم أمام اختبار حقيقي: هل ستظل وفية لمبادئها كداعم للعدالة العالمية، أم إنها ستسمح للمصالح السياسية بالتغلب على القيم التي أسست لها؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد مستقبل دورها العالمي، ومكانتها كمرجع أخلاقي في النظام الدولي.

موقف فرنسا والمحاكمات الدولية: من النزاعات السابقة إلى قضية روسيا وأوكرانيا

أدت فرنسا أدوارا متنوعة ومهمة في المحاكمات الدولية المتعلقة بالنزاعات الكبرى، بدءا من البوسنة والهرسك ورواندا والسودان، وصولا إلى النزاع الحالي بين روسيا وأوكرانيا.

أدت فرنسا أدوارا متنوعة ومهمة في المحاكمات الدولية المتعلقة بالنزاعات الكبرى، بدءا من البوسنة والهرسك ورواندا والسودان، وصولا إلى النزاع الحالي بين روسيا وأوكرانيا.

في البوسنة والهرسك، كانت فرنسا داعما رئيسيا لتأسيس المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، حيث حوكم مسؤولون بارزون عن جرائم الحرب، مثل راتكو ملاديتش ورادوفان كاراديتش، كما ساهمت في عمليات حفظ السلام ودعم جهود إنهاء النزاع.

أما في رواندا، فقد واجهت فرنسا انتقادات شديدة لدعمها السابق للنظام الحاكم خلال الإبادة الجماعية عام 1994. ورغم اعترافها بمسؤولية سياسية وأخلاقية لاحقا، نفت تواطؤها المباشر، لكنها دعمت المحاكمات الدولية لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم. وفي السودان، أيدت فرنسا بشدة قرارات المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس السابق عمر البشير، متهمة إياه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور.

دعمت فرنسا بشكل علني جهود المحكمة لمحاسبة مرتكبي الجرائم وتحقيق العدالة للضحايا، كما كانت من أبرز الداعمين لإنشاء المحكمة الخاصة بلبنان للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005، واستمرت في دعمها لهذه المحكمة التي أصدرت إدانات بحق متهمين بارزين.

أما في النزاع بين روسيا وأوكرانيا، فقد دعمت فرنسا المسار القضائي الدولي. رفعت أوكرانيا دعوى أمام محكمة العدل الدولية، متهمة روسيا بانتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية وتبرير غزوها بمزاعم كاذبة. كما أيدت فرنسا الدعوات الأوكرانية لإنشاء محكمة خاصة لمحاسبة المسؤولين الروس على غزو أوكرانيا، وشاركت في الجهود الأوروبية لدعم العدالة في هذه القضية.

حجم العلاقات بين فرنسا وإسرائيل

من خلال البحث، يظهر جليّا أن العلاقات بين فرنسا وإسرائيل متينة ومتعددة الأبعاد. على الصعيد العسكري، شهد التعاون بين البلدين مراحل متقدمة، وبلغ ذروته خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. واليوم، تستمر العلاقة في مجالات التكنولوجيا العسكرية، بما في ذلك الطائرات بدون طيار والأنظمة الدفاعية المتقدمة.

على الصعيد التجاري، بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين حوالي 2.3 مليار دولار في عام 2022. وتشمل الصادرات الفرنسية إلى إسرائيل المنتجات الكيماوية والطائرات، بينما تستورد فرنسا التقنيات العالية والأدوية، وتصدّر فرنسا أيضا معدات عسكرية بقيمة تصل إلى 25.6 مليون يورو سنويا. هذه الأرقام تسلط الضوء على المصالح الاقتصادية والعسكرية المشتركة التي تعزز العلاقة بين البلدين، وتجعل أي قرار فرنسي ضد إسرائيل معقدا من الناحية السياسية والاقتصادية.

تباين مواقف الدول الغربية وتأثير الموقف الفرنسي

في الوقت الذي تراجعت فيه فرنسا عن التزاماتها تجاه المحكمة الجنائية الدولية، تباينت مواقف الدول الغربية الأخرى بشأن مذكرة المحكمة المتعلقة برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. فالولايات المتحدة رفضت مذكرة المحكمة واعتبرتها غير ملزمة، مجددة دعمها لإسرائيل وانتقادها للمحكمة. وإيطاليا أبدت شكوكا حول قانونية المذكرة، مشيرة إلى أن المسؤولين الكبار يتمتعون بالحصانة. بريطانيا، من جانبها، احترمت استقلالية المحكمة، لكنها لم تقدم التزاما واضحا بتنفيذ المذكرة. أما ألمانيا، فرغم عدم إصدارها بيانا رسميا، أكدت دعمها التقليدي للمحكمة الجنائية الدولية.

في المقابل، أظهرت دول أخرى مواقف أكثر حزما؛ فهولندا أعلنت استعدادها لتنفيذ مذكرة الاعتقال إذا دخل نتنياهو أراضيها، بينما وصفت إيرلندا المذكرة بأنها خطوة مهمة داعية لدعم المحكمة. أما بلجيكا، ورغم غياب بيان رسمي، فقد عُرفت بدعمها المستمر لعمل المحكمة. هذا التباين في المواقف، يعكس اختلاف المصالح السياسية والاستراتيجية لكل دولة، مما يُظهر انقساما واضحا في الالتزام بالقانون الدولي ضمن الدول الغربية.

أما تأثير الموقف الفرنسي، باعتبار فرنسا مركزا سياسيّا وثقافيّا في الغرب، فيُعد ملحوظا. فتراجع فرنسا عن دعم المحكمة الجنائية الدولية، مبررة ذلك بالحصانة الدبلوماسية لنتنياهو، قد يشجع دولا أخرى على تبني مواقف مشابهة أو التردد في دعم المحكمة. هذا التأثير يُضعف التضامن الأوروبي ويُقوض فعالية المحكمة الجنائية الدولية، مما يجعلها أقل قدرة على فرض العدالة الدولية. أما القيمة العملية للموقف الفرنسي تبدو محدودة، حيث إن الموازنة بين المصالح والمبادئ تُضعف الالتزام الصريح بالقانون الدولي.

القضاء الفرنسي كأداة لضمان الالتزام الدولي ومراجعة الموقف الرسمي

في ظل الموقف الفرنسي المعلن بعدم تنفيذ مذكرة المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يبرز القضاء الفرنسي، وبالأخص المحكمة الإدارية، كوسيلة قانونية فعّالة لإلزام الحكومة بالوفاء بالتزاماتها الدولية. يتمتع القضاء الفرنسي باستقلالية تجعل أحكامه ملزمة للحكومة، بغض النظر عن المبررات السياسية، ويمكن لأي جهة متضررة أو منظمة حقوقية رفع دعوى مباشرة أمام المحكمة الإدارية للطعن في هذا الموقف؛ باعتباره انتهاكا لنظام روما الأساسي والقانون الدولي. إلى جانب ذلك، يمكن تقديم مذكرات قانونية مدعومة بحجج تُظهر تعارض الموقف الحكومي مع مبادئ العدالة الدولية، مما قد يدفع المحكمة إلى إصدار أحكام تُلزم الحكومة بتغيير موقفها.

كما يمكن اللجوء إلى جهود استباقية، مثل الضغط العام أو رفع دعاوى وقائية لمنع تنفيذ قرارات حكومية مخالفة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تصعيد القضية إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان؛ باعتبار فرنسا ملتزمة بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. هذه المسارات القانونية تتيح خيارات عملية لضمان التزام فرنسا بمبادئ العدالة الدولية وصيانة سيادة القانون.