كشف تحقيق أجرته هيئة الإذاعة
البريطانية "بي بي سي" على امتداد خمسة أشهر عن صلة ألمانيا بتجارة
تهريب
المهاجرين عبر
بحر المانش.
وأكدت الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة
في
بريطانيا، أن ألمانيا أصبحت مركزا أساسيا لتخزين القوارب والمحركات، التي تستعمل
في عبور بحر المانش.
وخلال التحقيق الذي أجراه صحفي متخف من
"بي بي سي" كشف المهربون أنهم يحتفظون بالقوارب في عدد من المخازن السرية،
خوفا من مطاردة الشرطة الألمانية.
وكان صحفي "بي بي سي" المتخفي
يقف أمام المحطة المركزية في مدينة إيسن، مرتديا كاميرا سرية، ويتظاهر بأنه مهاجر من
الشرق الأوسط، يرغب في عبور بحر المانش، إلى بريطانيا برفقة عائلته وأصدقائه.
واقترب منه رجل يطلق على نفسه اسم
"أبو سحر"، وهو شخص كان حمزة (اسم الصحفي المستعار) يتواصل معه منذ شهور
عن طريق تطبيق "واتساب"، وحصل على رقمه من المهاجرين، ولكنها المرة الأولى
التي يلتقيه فيها.
وخلال تواصلهما تحدث أبو سحر مع حمزة عن
الطريقة التي يساعده بها للوصول إلى سواحل إنجلترا الجنوبية.
وقال له حمزة إن التجارب السيئة مع عصابات
التهريب في كالي دفعته هو وعائلته وأصدقاؤه إلى التفكير في العبور بأنفسهم.
وكان أبو سحر قد أرسل صور فيديو لقارب قال
إنه جديد ويحتفظ به في مخزن بمنطقة إيسن. وأرسل المزيد من الصور لقوارب أخرى ومحركات
يجري تشغيلها.
وطلب حمزة أن يتحقق بنفسه من نوعية القوارب
والمحركات المعروضة، ولذلك حرص على مقابلته وجها لوجه.
وكان فريق "بي بي سي" على مقربة
من حمزة يراقب تحركاته، وعلى استعداد للتدخل لإنقاذه بسرعة إذا تطلب الأمر ذلك.
وعندما كان الرجلان يسيران وسط إيسن، قال
أبو سحر إن الذهاب إلى المخزن لرؤية القارب "فيه مخاطرة كبيرة"، وقال إنها توجد على بعد 15 دقيقة فقط بالسيارة.
وسأله حمزة عن سبب تخزين القوارب في هذه
المنطقة تحديدا، فأجابه أبو سحر بأن ذلك لاعتبارات تتعلق "بالسلامة والتنظيم".
تقع مدينة إيسن على بعد 4 إلى 5 ساعات بالسيارة
من كالي. وقرب المسافة يسمح بنقل القوارب إلى هناك بسرعة. ولكنها ليست قريبة جدا من
الشواطئ المراقبة شمالي فرنسا.
وتجري الشرطة عمليات تفتيش من حين لآخر.
ولكن تسهيل تهريب البشر ليس مخالفا للقانون في ألمانيا، إذا كان باتجاه بلاد خارج الاتحاد
الأوروبي، الذي لم تعد بريطانيا طرفا فيه.
وذهب أبو سحر مع حمزة إلى مقهى وطلبا قهوة،
وأشعلا سيجارتين، وغيرا الطاولة، لأنه كان حولهم أناس يتحدثون العربية، وأبو سحر لا يريد
أن يسمعه أحد.
وبعد 35 دقيقة، وقف أبو سحر، وقال لحمزة:
"اخفض صوتك لقد جاء".
اقترب منهم رجل بهندام أنيق وقبعة بيسبول.
يسمونه الخال. كان الخال مصحوبا برجل ظل صامتا طوال الوقت. يبدو أنه حارسه الشخصي.
تصافح الرجال فيما بينهم، قبل أن يتحدث
الخال مع النادلة بالألمانية، ثم بدأ يتحدث باللغة العربية.
وطلبوا من حمزة أن يسلمهم هاتفه ليوضع على
طاولة منفصلة.
ويجلس الحارس الشخصي إلى جانب حمزة، ويقضي
22 دقيقة التالية محدقا فيه.
وقال الخال لحمزة "لا ترفع صوتك"،
عندما طلب منه أن يفصح عن هويته وعن ما يريد.
وعرض حمزة عليه قصة المهاجر الذي كان يتقمص
شخصيته، ويبدو أنها كانت مقنعة.
وقال له إن عملية بيع القارب ليست مخالفة
للقانون صراحة بسبب المنطقة الرمادية في القانون الألماني.
ولكن الخال اعترض عليه.
"من قال لك ذلك؟ إنها مخالفة للقانون".
وخلال تناول القهوة كان الخال يضرب حمزة
على صدره، بينما كشف له المهربون أنهم يملكون 10 مخازن في منطقة إيسن.
وهذا يسمح لهم بتوزيع القوارب والمحركات
على أكثر من مخزن، حتى إذا دهمت الشرطة مخزنا، احتفظوا بما لديهم في المخازن الأخرى.
ويعتقد أنهم في بعض الأحيان يكونون على
علم مسبق بمداهمة الشرطة فيتركون في المخزن الواحد "طعما"، تحتجزه الشرطة،
دون أن تختل عملياتهم.
ويتحدث المهربون عن توصيل التجهيزات إلى
كالي في غضون 3 إلى 4 ساعات. وهذا يعني أن لديهم الجرأة لاستعمال الطريق السريعة
بدل الطرق الجانبية.
ويسمح موقع إيسن بتوصيل القوارب في الصباح
أو المساء إذا دفعت أحوال الطقس إلى ارتفاع عدد محاولات العبور وبالتالي زيادة الطلب.
ويبدو أن الخال اقتنع في المقهى بأن حمزة
زبون حقيقي، وبدأ يتحدث عن الجانب المالي.
واقترح عليه العرض الكامل الذي يكلف 15
ألف يورو. ويتضمن تسليم القارب في كالي مع المحرك والوقود والمضخة و60 سترة نجاة، وهو
أكثر مما طلب حمزة. ولكن هذا هو العرض، الذي يعطى للمهربين الذين ينظمون عمليات العبور
في فرنسا.
ويجني المهربون أرباحا "هائلة"
لأنهم يأخذون عن البالغ الواحد 2000 يورو في رحلة واحدة، تضم العشرات من المهاجرين.
وإذا تم الاتفاق، فإن الخال يتعهد بإيصال
القارب إلى مكان يبعد مسافة 200 متر عن السواحل الفرنسية، في اليوم التالي.
ويشير الخال وأبو سحر إلى "نقطة عبور
جديدة"، ويزعمان أنهما اكتشفا مكانا بعيدا عن أعين الرقابة الفرنسية، ولكنهما
لم يفصحا عن موقعه.
وهناك اختيار أرخص كان حمزة يرغب فيه من
البداية. وهو أن يدفع 8 آلاف يورو ويأخذ القارب بنفسه من المخزن وينقله إلى شمالي فرنسا.
وقال له المهربون إذا ضبطتك الشرطة، فلسنا
مسؤولين عنك.
وناقش الطرفان الطريقة التي سيدفع بها حمزة
المبلغ للعصابة عندما يقرر ما سيفعل.
ويريد الخال أن يدفع المال نقدا في تركيا
لأن "التجهيزات كلها" تأتي من هناك.
وقال إن الدفع يمكن أن يتم عن طريق نظام
الحوالة. وهي طريقة تنقل بها الأموال بعيدا عن النظام المصرفي، عن طريق أعوان يوصلون
الأموال نقدا عبر الحدود.
وأرسلوا لحمزة لاحقا رقم حساب على "واتساب".
وبعثوا له رسائل نصية وصوتية أيضا بعد لقاء
المقهى، يتحدث فيها أبو سحر عن المحركات، فيقول "إنه يحب محرك ميركيري، ولكن إذا
كانت محركات ياماها متوفرة، فأنا أفضل ياماها".
ويتحدث عن كيفية "توصيل ودفن"
التجهيزات، فيقول يمكن إخفاؤها قرب نقطة العبور، والأفضل أن تكون في بولوني لأن كالي
"صعبة جدا".
وبهدف الضغط على حمزة بأسلوب تسويقي، قال
له المهربون إن سلعتهم "محدودة"، والمشترون كثيرون.
وكان الخال أكثر حذرا في التواصل. ولكنه
في رسالة صوتية إلى أبي سحر عبر عن عدم ارتياحه بعد لقاء حمزة، قائلا: "صديقك
يبدو ليس على ما يرام".
ومع ذلك طلب من أبي سحر أن يحصل على قرار
من حمزة إذا كان يريد شراء قارب أم لا: "اسأله خلال ساعة أو ساعتين".
وفي النهاية أخبرهم حمزة بأنه لا يريد أن
يشتري.
وعرضت "بي بي سي" صورا وصلتنا
لهذه القوارب على رئيس اللجنة الوطنية المستقلة لقوارب النجاة، نيل دالتون، فقال لنا
إنه لن يركب هذه القوارب في "بركة البط".
وشبه واحدا منها "بمصيدة الموت"،
وقال إنه "مروع وخطير" أن يُكدس العشرات من الناس في هذه القوارب لعبور بحر
المانش، بسبب تصميمها الذي يبدو هشا".
وشهد شهر شباط/ فبراير مداهمات واسعة احتجزت
فيها الشرطة قوارب ومحركات وعوامات أطفال في ألمانيا، واعتقلت 19 شخصا. ولكنها كانت
بأمر من القضاء البلجيكي والفرنسي. وتجرى في فرنسا محاكمة المتهمين في عملية مشابهة
في 2022.
وقال متحدث باسم وزارة الداخلية البريطانية
لـ"بي بي سي" إن الحكومة "تعمل على تسريع" التعاون مع عدد من الدول
من بينها ألمانيا "لمكافحة عصابات التهريب"، ولكن "هناك دائما المزيد
من العمل بيننا".