الأهداف
من جنس الوسائل، والوسائل من جنس
الأهداف، والآثار تابعة لهما، وتدبر المآلات حري بهما. وإذ ينطلق التسميم السياسي
من أربعة
مفاهيم أساسية؛ الأول منها يشير الى إمكانية خلق التحلل في نظام
القيم الجماعية بطريق غير مباشر، والثاني تطويع الإرادة من الداخل من خلال
التعامل النفسي المباشر، والثالث التدرج في عملية التوجه من مستوى زرع
القيم إلى مستوى تضخيم القيم المزروعة، والرابع جعل مفهوم تفتيت الوحدة في
الجماعة الوطنية أساسا مطلقا بوصفه مقدمة لتخطي الصراع العضوي في مواجهة الاستعمار
التقليدي؛ فإن عمليات التسميم والهدف الكامن خلفها ترتبط ارتباطا
وثيقا بالغزو المعنوي والدعاية المضادة والحرب الإعلامية، كما تقع في قلب الحرب
النفسية، لتشكل حالة من التسميم الشامل.
إن
التسميم في حدود تأثيره في الكيان الاجتماعي الحضاري وكيان الأمة المستهدف يتخذ
صورة أو أكثر، ولعل تدبر المعاني الحضارية للتسميم لا يجعل من حصر المفهوم في
الميدان السياسي أمرا صائبا؛ فمن تحديد عالم الأهداف والوسائل يتبين لنا أن
التسميم عملية حضارية شاملة ومتكاملة، وأن الانتقال من وصف السياسي إلى الحضاري له
ليس فقط المسوغات والمبررات، بل لا بد أن نلحظ تلك المسائل الهادفة إلى عمليات
متراكمة من التقويض الحضاري الممنهج؛ التي تتخذ في بدايتها أساليب متسللة ثم تنتقل
مع عمليات مستمرة في الإنهاك الحضاري إلى الوضوح والعلن في أهدافها بل في وسائلها.
التسميم عملية حضارية شاملة ومتكاملة، وأن الانتقال من وصف السياسي إلى الحضاري له ليس فقط المسوغات والمبررات، بل لا بد أن نلحظ تلك المسائل الهادفة إلى عمليات متراكمة من التقويض الحضاري الممنهج؛ التي تتخذ في بدايتها أساليب متسللة ثم تنتقل مع عمليات مستمرة في الإنهاك الحضاري إلى الوضوح والعلن في أهدافها بل في وسائلها
فمن
حال التمييع للشخصية الحضارية وهويتها الحقيقية والحضارية، إلى التطبيع الهادف لإيهام
الطرف الآخر بالتحول من حالة العداوة التقليدية والصراع المصيري، إلى حالة التعايش
الطبيعي بانتزاع إرادة المقاومة من العقول التي تؤدي بالنتيجة إلى انتزاع الأسلحة
من الأيادي والاستسلام لحالة الاسترخاء وقبول الأمر الواقع، ومن حال التطبيع يتطلع
الخصم والعدو إلى عمليات التطويع فالترويض، وهي عمليات تقصد إلى تسيير الإرادة من
طريقها الطبيعي والأصيل إلى طريق آخر، إذ يروضها القائم بعملية التسميم وغالبا ما
يخترق القيادات الفكرية والنخب المثقفة.
هذا
الأمر يهدف بدوره إلى تصنيع حالات سلبية على مستوى واسع من حالة الاغتراب فرديا
وجماعيا، أي جعل الفرد والتكوينات الجمعية مغتربة عن مجتمعها والثقافة التي يعيشها
ودفعه إلى اتخاذ مواقف غير سلبية وغير مواتية منها، بل قد تعبر عن ذات رؤى العدو
واعتناقها. وتبعا لذلك فالتسميم لهذه الصورة يعمل على خلق حالة من الصراع بين
الذات الفردية والذات الجماعية للتكوينات الفرعية، مستغلة بعض الأزمات ومحيطها
الاجتماعي والثقافي، ولا تكون تلك الحالة إلا مقدمة لحال التفتيت وربما التفجير.
هذا
وذاك صورة من صور فك الأواصر بين عناصر الجسد والكيان الحضاري وبعثرتها، بحيث يغدو
كل عنصر عاجزا عن أداء وظائفه الطبيعية بشكل كامل، وإزاء هذا النقص يبدو القائم
بالتسمم بصورة المحسن الذي لا يبخل بتقديم خدماته للجسد المريض بجرعات محسوبة،
ولكنها في حقيقة الأمر مسمومة، وهنا يتحرك العدو للاحتواء في ثوب الانقضاض،
والانقضاض في ثوب الاحتلال، إذ يأخذ الكيان الحضاري بعد أن تقطع أوصاله في صور للتبعية
الشاملة للأجنبي أي باستيعابه كليا.
إن
تحليل عملية التسميم الحضاري تتطلب التمييز بين مراحل عدة للتعامل بفرز أسلوب التخطيط
لعمليات التسميم السياسي بأدواره المترابطة، ضمن تقسيم تصاعدي يسمح بالانتقال من
دور لآخر. حزمة المراحل المختلفة تستهدف إحكام عمليات التسميم السياسي، ومحاولة
الوصول الى أقصى تأثير لها في مراحل متتابعة ومتراكمة متوازية ومتتالية متصاعدة؛ مرحلة
التعامل مع أدوات حمل العدوى الفكرية، أي التوجه في التعامل إلى كل من لا يشعر
بالتجاوب مع المجتمع بغرض استعماله أداة لتحقيق أهداف "التسميم الحضاري".
ثم
تأتي عمليات التخريب وقتل القادة واختلاق الخيانات لتكمل وتساند العملية الأولى
بهدف خلق عدم الثقة في الذات، ويترافق مع ذلك التركيز بتطويع الطبقات المختارة
والمثقفة التي تمثل عناصر المقاومة في الجسد السياسي، والمفاصل المتحكمة في هذا
الجسد بهدف إضعافها، وخاتمة ذلك الإغراق الجماهيري بمعنى الصراع المباشر على
المستوى الجماهيري، إذ تبرز الأداة الدعائية أداة مباشرة في التعامل.
وهنا يعد التسميم الحضاري أحد العمليات أو المقدمات
المنطقية التي يعاد من خلالها تشكيل الإطار الذي ينطلق منه الرأي العام في مجتمع
معين، بحيث يتم تشكيل ذلك الرأي إزاء القضايا التي تواجهه بشكل يتناسب مع القيم
الجديدة التي غرسها، أو تم تسريبها إلى عقله ووعيه الجماعي أو ذاكرة النخبة
المثقفة والقائدة فيه. فعملية التسميم السياسي بهذا المعنى هي ما تخضع له "الذاكرة"
و"الوعي" الجمعي للأمة منذ عقدين من الزمن على الأقل في صراعها الممتد
مع الكيان الصهيوني، ومؤشرات ذلك وتحليلاته يمكن أن يفرد لها موضع آخر.
ولا يخفى أن الأبعاد السياسية والإعلامية والثقافية
والاقتصادية تعد جميعا الأوعية التي تتحرك فيها قوى التسميم، وتصب في محصلتها في
الوعاء الأكبر وهو البعد الحضاري، ولذلك يأخذ هذا التسميم بضميمته إلى الحضاري بعدا
كليا تدخل فيه جوامع المنظومة الحضارية في الأمة المسلمة، فيصيب دينها وعقيدتها
ورؤيتها الكلية وثقافتها ونظمها وفكرها وإنسانها بالسموم الماسخة، على حد قول
الدكتور فارس العزاوي في كتابه القيم؛ "مدخل في التسميم
الحضاري في الأمة"؛ هذا
المدخل عن التسميم الحضاري في الأمة يفتح آفاقا من النظر تعد جرس إنذار ينبه
الغافلين؛ فيعوا ما تقوم به دوائر التسميم بقواها ووسائلها واستراتيجياتها من
محاولات النقض والهدم للبنيان الحضاري في الأمة بمقوماتها ومكوناتها، خاصة ما يقوم به الغزو الصهيوني في مراحله المتأخرة.
من
أهم آثار ومآلات التسميم الحضاري متعددة الأبعاد والتي تتراتب على بعضها البعض
وتؤثر على جوانب مختلفة من حياة الأفراد والمجتمعات:
- فقدان
الهوية الثقافية وتآكلها، حيث تسيطر ثقافات أخرى على القيم واضطرابها والتشويش
عليها، وبما ينتج ضعف الروابط الاجتماعية وتراكم السلوكيات السلبية.
من الأهمية بمكان -ونحن في دائرة المواجهة الحضارية لحالة التسميم للمفاهيم الكبرى كما هي في دائرة التأسيس- التأكيد على ضرورة المحافظة على المفاهيم في الأمة والاحتفاظ بمدلولاتها والعمل على وضوح هذه المدلولات في ذهن الجيل
- التدني
التعليمي والثقافي بما قد ينجم عنه جيل غير مهتم أو غير مدرك لتراثه الثقافي، وسيادة حالة من الانقسام الاجتماعي؛ وهو أمر قد يؤدي إلى عدم الاستقرار
الاجتماعي مما يسهم في زيادة مشاعر التوتر والاحتقان
والاستقطاب داخل المجتمعات؛ بما
ينتج آثارا من تراكم مشاعر الاغتراب والضياع نتيجة الابتعاد عن ثقافتهم الأصلية وفقدان
المعايير.
ومن هنا، فإن من الأهمية بمكان -ونحن في دائرة المواجهة
الحضارية لحالة التسميم للمفاهيم الكبرى كما هي في دائرة التأسيس- التأكيد على
ضرورة المحافظة على المفاهيم في الأمة والاحتفاظ بمدلولاتها والعمل على وضوح هذه
المدلولات في ذهن الجيل؛ لأن هذه المصطلحات هي نقاط الارتكاز الحضارية والمعالم
الفكرية التي تحدد هوية الأمة بما لها من رصيد نفسي ودلالات فكرية وتطبيقات
تاريخية مأمونة، وبوصفها أوعية النقل الثقافي وأقنية التواصل الحضاري، وعدم
تحديدها ووضوحها يؤديان إلى لون من التسطيح الخطير في الشخصية المسلمة والتقطيع
لصورة تواصلها الحضاري.
خلاصة
القول، وجب علينا جميعا وفي ميادين المواجهة والتدافع مع كل عمليات التسميم
الحضاري وكل من يملك تأثيرا فعالا في المجتمع؛ زيادة بث الوعي للحد من عمليات
التسميم السياسي والإعلامي والحروب النفسية والدعايات التضليلية الزائفة، والتصدي
للأفكار الدخيلة حتى لا تصبح سلوكا يعده البعض أمرا طبيعيا ويمارسونه بشكل عام،
وتوضيح خطئها وخطرها، للمحافظة على الثوابت وحفظ الهوية الحضارية من الخلخلة لأنها
تمثل أساس استقرار المجتمعات وتقدمها ورقيها؛ فيكون هذا التدافع الحضاري الشامل
ومع تكافل فيما بين الوسائل والميادين المتنوعة؛ على طريق المواجهة الشاملة.
x.com/Saif_abdelfatah