استعرضت مجلة "
فورين بوليسي" تاريخ
وكالة الاستخبارات الأمريكية "سي آي إيه" ودورها في تعزيز نظريات
المؤامرة حول "
الدولة العميقة" في الولايات المتحدة، خاصة في ظل رئاسة
دونالد
ترامب.
وقالت المجلة، في تقريرها الذي ترجمته
"عربي 21"، إن احتمالية عودة دونالد ترامب للرئاسة مرة أخرى أثار قلقا
كبيرا في مجتمع الاستخبارات الأمريكية، وخاصة وكالة الاستخبارات المركزية
الأمريكية "سي آي إيه".
ولا يقتصر الأمر على الحديث الذي دار مؤخرا بين
مستشاري ترامب عن منح صاحب نظرية المؤامرة روبرت ف. كينيدي الابن دورا
"للإشراف" على الوكالة. فقد تعهد ترامب أيضا بتدمير ما يسميه هو وأنصاره
"الدولة العميقة"، وهي مجموعة مزعومة من المسؤولين غير المنتخبين -
معظمهم في أجهزة الاستخبارات - الذين يريدون إبعاده عن البيت الأبيض وبالتالي
إحباط الإرادة الديمقراطية للشعب.
ومع ذلك، فإن نظرية "الدولة العميقة"
ليست جديدة، فهي تعود جزئيا إلى عصر ووترغيت، عندما زعم مقربون من الرئيس ريتشارد
نيكسون أنه كان ضحية لمؤامرة من وكالة الاستخبارات المركزية لتشويهه. وساعد روجر
ستون، الموالي لنيكسون والمحرض السياسي، في إحياء فكرة الانقلاب الصامت الذي تنفذه
جهات خفية في الدولة في القرن الحادي والعشرين. وفي تغريدات وفيديوهات حديثة، ربط
ستون بين محاولة اغتيال ترامب في تموز/ يوليو وفضيحة ووترغيت.
وأفادت المجلة بأن "الدولة العميقة"
ليست النظرية الوحيدة التي تتعلق بوكالة الاستخبارات المركزية. فقد زعم آخرون أن
الوكالة - وهي وحدة استخبارات أجنبية ممنوعة صراحة من القيام بعمليات داخلية -
استهدفت حركة المعارضة لحرب فيتنام في الولايات المتحدة، وحتى إنها اغتالت جون
لينون.
كما أنه زعم أنها أجرت تجارب على "التحكم في
العقل" أدت إلى حوادث قتل أخرى على الأراضي الأمريكية، بما في ذلك مقتل والد
روبرت ف. كينيدي الابن، والجرائم التي ارتكبتها "عائلة" تشارلز مانسون.
بالإضافة إلى ذلك، يدعى أنها قامت في الثمانينيات بتهريب الكوكايين في الأحياء
الداخلية للولايات المتحدة بهدف تدمير المجتمعات السوداء.
واعتبرت المجلة أن اغتيال الرئيس جون كينيدي في
سنة 1963 من أبرز نظريات المؤامرة في التاريخ الأمريكي الحديث. وقد تم توجيه
الاتهامات إلى العديد من الأطراف، ولكن وكالة
المخابرات المركزية كانت دائما من
بين المشتبه بهم. وتشير بعض الروايات إلى رفض كينيدي تقديم الدعم العسكري لوكالة
المخابرات خلال غزو خليج الخنازير في كوبا سنة 1961 كمحفز محتمل. بينما يشير آخرون
إلى نيته تقليص نفوذ المجمع العسكري والاستخباراتي من خلال الانسحاب من فيتنام.
وهاتان النظريتان هما من أكثر النظريات شيوعا، وهناك العديد من النظريات الأخرى.
وعن سبب استمرار نظريات مؤامرة وكالة
الاستخبارات المركزية وكثرتها، أرجعت المجلة أحد الأسباب إلى أن الولايات المتحدة
لطالما كانت عرضة لنظرية المؤامرة - وهو ما أسماه المؤرخ ريتشارد هوفستادر في
كتابه الشهير "نمط جنون العظمة في السياسة الأمريكية". وفي السابق، كان
الأمريكيون يعتقدون أن الجماعات الدخيلة، مثل الكاثوليك والمورون واليهود، هي من
يقوضون الجمهورية، ولكن في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، عندما تم
إنشاء جزء كبير من مؤسسة الأمن القومي الحديثة - وكالة الاستخبارات المركزية على
سبيل المثال تأسست في سنة 1947 - فقد بدأت نظريات المؤامرة تركز على الأقسام السرية
للحكومة نفسها.
وقد تفاقم هذا الدافع المحلي بسبب النفوذ
الأجنبي. ففي الستينيات، ربما زرع جهاز المخابرات السوفييتي قصصا حول اغتيال كينيدي
في الصحافة الأوروبية، ما جعلها تصل إلى الولايات المتحدة. وكان محتجو السلام
يميلون لتصديق هذه المعلومات، حيث إنهم كانوا يستمعون لقادة من العالم الثالث مثل فيديل
كاسترو الذي أكد أن وكالة المخابرات المركزية تتآمر ضدهم. وبهذا المعنى، فإن
التآمر في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كان تأثيرا ارتداديا للتدخل
الأمريكي في الخارج. ومؤخرا، خلال فترة رئاسة ترامب، أطلق عملاء روس حملات لنشر
نظرية "الدولة العميقة" على الإنترنت.
وبينت المجلة أن وكالة الاستخبارات المركزية
تتحمل جزءا من اللوم؛ حيث تميل الوكالة تاريخا إلى الإفراط في تصنيف سجلاتها
وترددها في الامتثال لقوانين حرية المعلومات، ما يدفع المواطنين الأمريكيين
للاعتقاد بأنها تحمي أسرارا أكبر مما هي عليه بالفعل. على سبيل المثال، تم تصنيف
تقرير داخلي ساخر من سنة 1974 حول مؤامرة "مجموعة الشهيد إبنيزر سكروج"
لتخريب "رحلة حكومية من القطب الشمالي" على أنه سري، ولم يفكّ سرّه حتى
سنة 1999.
وأضافت المجلة أن وكالة المخابرات المركزية
تورطت بالفعل في أنشطة غير أخلاقية وغير قانونية داخل الولايات المتحدة. فخلال
الخمسينيات، وبموجب عملية تحمل الاسم الرمزي "إم كي ألترا"، دعمت
الوكالة أبحاثا حول أساليب الاستجواب باستخدام المخدرات النفسية وتقنيات سلوكية
مؤذية تضمنت أشخاصا غير مدركين لهذا الأمر. وفي إحدى التجارب، أنشأت منازل آمنة في
نيويورك وسان فرانسيسكو لمراقبة ما يحدث عندما تضع العاهرات مخدر الهلوسة في
مشروبات عملائهن.
وفي الستينيات والسبعينيات، تجسست وكالة
المخابرات المركزية على متظاهري السلام والنشطاء السود في إطار برنامج يسمى
"الفوضى"، بناء على تعليمات من الرئيسين ليندون جونسون وريتشارد نيكسون،
اللذين كانا يشكّان في وجود تدخل أجنبي في الحركة المناهضة للحرب. وخلال
الثمانينيات، تعاونت الوكالة مع مهربي المخدرات المناهضين للشيوعية الذين ساعدوا
في تزويد متمردي الكونترا في نيكاراغوا بالأسلحة، بينما كانوا يتاجرون بالكوكايين
في مدن أمريكية مثل لوس أنجلوس.
وعندما حاول الصحفيون أو المبلغون عن المخالفات
فضح مثل هذه الأنشطة، كانت وسائل الإعلام الصديقة لوكالة المخابرات المركزية
الأمريكية تقلل من شأنهم وتصفهم إما بكونهم عملاء أجانب أو ضحايا "نظرية
مؤامرة مرضية". وخلال الثمانينيات، شوهت صحيفة واشنطن تايمز المحافظة سمعة
التحقيقات في قضية الكونترا. حتى إن الصحيفة انضمت إلى العديد من الصحف الرائدة
الأخرى في مهاجمة غاري ويب، مراسل منطقة الخليج الذي كشف عن صلات وكالة
الاستخبارات المركزية بمهربي المخدرات المرتبطين بالكونترا.
وقالت المجلة إن سلوكيات السرية المفرطة
والتجاوزات التشغيلية كانت واضحة في فترة كينيدي. فخلال أوائل الستينيات، نفذت
وكالة المخابرات المركزية محاولات متهورة للقضاء على كاسترو، شملت الكوبيين
والمجرمين الأمريكيين. وقد تجاهلت لجنة وارن، التي شكلتها إدارة جونسون للتحقيق في
الاغتيال، هذه العمليات، ما ترك ثغرات في تقريرها النهائي وشجع القراء على تكوين
نظريات مؤامرة خاصة بهم.
وهذا لا يعني أن تلك النظريات صحيحة، فعلى
الرغم من جهود آلاف الباحثين في قضية اغتيال كينيدي، لم يظهر أي دليل قاطع يربط
وكالة المخابرات المركزية باغتياله. كما أن نظريات أخرى، مثل تلك التي تتهم
الوكالة بقتل لينون أو جرائم مانسون، من المحتمل ألا تثبت أبدا بسبب عدم وجود أدلة
كافية تدعم صحتها.
وأشارت المجلة إلى أن وكالة المخابرات المركزية
لم تتجاهل الاتهامات ضدها؛ حيث عملت، خلال الستينيات، من خلف الكواليس لمواجهة
الشكوك حول استنتاج لجنة وارن بأن لي هارفي أوزوالد هو القاتل الوحيد. وبعد تسريب
"جواهر العائلة" في سنة 1974، أطلقت الوكالة حملة علاقات عامة لتحسين
صورتها بقيادة ديفيد أتملي فيليبس. كما أنها تعاونت، منذ التسعينيات، مع هوليوود في
إنتاجات إيجابية مثل "زيرو دارك ثيرتي". وفي سنة 2022، أطلقت بودكاست
بعنوان "ملفات لانغلي" يصور مقرها كمكان يتسم بالاحترافية والوعي.
ولكن ليس من الواضح مدى فائدة هذه الحملات
للعلاقات العامة لوكالة المخابرات المركزية؛ فقد اجتذبت "ملفات لانغلي"
مزاعم متحفظة بـ"الاستيقاظ الاجتماعي"، وأدى الكشف عن دور الوكالة في
إنتاج فيلم "زيرو دارك ثيرتي" مزيدا من الدعاية السلبية حول استخدامها
"تقنيات الاستجواب المعززة" مثل الغمر بالماء. كما أن الظهور العلني
الكبير لفيليبس في أواخر السبعينيات جعله هدفا رئيسيا في نظريات مؤامرة كينيدي،
حيث شبه تجربته بشكل خاص بمعاناة شخصية في رواية لفرانز كافكا.
وطالما أن وكالة المخابرات المركزية تقوم
بعمليات سرية تؤثر على الشأن الداخلي الأمريكي وتخفي أنشطتها تحت طبقات من السرية
الرسمية، فسيظل الجمهور الأمريكي يشك في أسوأ الاحتمالات.
ومن الآن فصاعدا، فإنه يجب على وكالة الاستخبارات
المركزية أن تبذل جهودا أكبر للامتثال لقوانين حرية المعلومات التي تحكم رفع
السرية. فبالإضافة إلى المساعدة في تبديد حالة الجهل العام القسري التي تزدهر فيها
نظرية المؤامرة، فإن مثل هذه الخطوة من شأنها أن تحسن من تبادل المعلومات مع
الوكالات الحكومية الأخرى وتثبط تسريب البيانات من قبل الموظفين الساخطين.
وشددت المجلة على أنه ينبغي على وكالة
الاستخبارات المركزية التركيز على مهمتها الأصلية في تحليل المعلومات، وتجنب
العمليات السرية المشكوك فيها التي أدت لنظريات المؤامرة. ومع تراجع "الحرب
على الإرهاب"، فإن هناك دلائل على إعادة تركيز الوكالة، مثل إنشاء مركزين جديدين
في 2021، أحدهما مخصص للصين والآخر للتكنولوجيا والمناخ. وعززت التوقعات الصحيحة
بالغزو الروسي لأوكرانيا في 2022 من ثقة الجمهور في قدرات الوكالة.
لكنها أشارت إلى أن فاعلية هذه الخطوات في منع
انتشار نظريات المؤامرة على غرار "الدولة العميقة" لا تزال غير مؤكدة.
وقد يكون من الصعب إزالة الشكوك حول وكالة الاستخبارات المركزية والوكالات
الاستخباراتية الأخرى في مجتمع يعاني تاريخيا من الريبة تجاه السلطات السرية. ومع
ذلك، فإنه يتعين بذل الجهود الضرورية، فقد يكون بقاء الوكالة في عصر ترامب معتمدا على
ذلك.