المرجع في تاريخ الاغتيالات التي نفذتها أجهزة الموساد، والشين بيت، والجيش الإسرائيلي منذ مولد دولة «عصابات الإرهاب» (حسب النعت الرسمي البريطاني، وحسبما لا يزال يشهد به أرشيف الحكومة وأرشيف الصحافة) عام 1948، هو الكتاب التحقيقي الذي أصدره مراسل يديعوت أحرونوت والنيويورك تايمز للشؤون العسكرية والاستخبارية رونن برغمان عام 2018 بعنوان «بَكِّرْ بالنهوض واقتُل أوّلا: التاريخ السري لاغتيالات الاستهداف الإسرائيلية».
وقد صدر الكتاب بالعبرية، ونشر في العام ذاته مترجما إلى الإنكليزية في كل من بريطانيا وأمريكا. ويحيل العنوان المثير إلى أحد تعاليم التلمود: «إذا جاء أحد ليقتلك، فانهض واقتله أولا». فهو تحريض، دنيوي بقدر ما هو ديني، لليهودي على النهوض باكرا، حتى يكون هو قاتل عدوه لا قتيله، أي حتى يتغدى هو بالعدو قبل أن يتعشى العدو به، حسب القولة العامية الشهيرة.
يقول برغمان؛ إن إسرائيل اغتالت، منذ الحرب العالمية الثانية، من الناس أكثر مما اغتالت أي دولة غربية أخرى؛ فقد نفذت حتى عام ألفين حوالي 500 عملية اغتيال قتل فيها أكثر من ألف شخص بين مقاتلين ومدنيين. ونفذت في أثناء الانتفاضة الثانية ألف عملية اغتيال، نجح منها 168.
ومنذئذ حتى 2018 نفذت 800 عملية اغتيال أخرى. في المقابل، نفذت أمريكا 48 عملية اغتيال طيلة رئاسة بوش، و353 طيلة رئاسة أوباما. ويؤكد برغمان أن الاستخبارات الإسرائيلية أنشأت أقوى ماكينة اغتيال في التاريخ، اعتمادا على ما تستقيه من معلومات استخبارية «ممتازة، بل وشهيّة» حسب وصف مدير السي أي إيه السابق مايكل هايدن. ويشرح الصحفي بأن «اتّكال إسرائيل على الاغتيال أداةَ عسكرية ليس وليد الصدفة»، بل إن أحد أسبابه المتعددة أنه ناجم عن «الأصول الثورية والنضالية للحركة الصهيونية»!
وكما ترى، فهذا تعبير مبالغ في البراءة الرومانسية. أما المراقبون والمؤرخون المحايدون، فإن لهم في هذا الشأن تعابير وأوصافا أكثر دقة وواقعية، والدليل؛ أن القائد السابق لسلاح البحرية الفرنسية الأميرال جان-لوي فيشو قال يوم 18 أيلول/ سبتمبر، على قناة إل سي إي، تعليقا على تفجيرات أجهزة «البيجر» في
لبنان: «لا ينبغي أن ننسى أن ميراث الجيش الإسرائيلي هو في المقام الأول ميراث إرهابي.
أصل الجيش الإسرائيلي وأساسه، بعكس الجيوش الأخرى التي نشأت في إطار القانون، كان الجيش الإسرائيلي في البدء منظمة إرهابية.
ذلك هو أصل الجيش الإسرائيلي وأساسه، إذ بعكس الجيوش الأخرى التي نشأت في إطار القانون، كان الجيش الإسرائيلي في البدء منظمة إرهابية». سأله المذيع داريوس روشبان: وهل حافظ على هذا الطابع الإرهابي؟ فأجاب: بلا شك. عندها قال المذيع: «أتذكّر أني حاورت رئيس الوزراء إسحاق شامير الذي مارس هو نفسه الإرهاب، فقد كان إرهابيا ضد البريطانيين، وقال إن أثر تلك التجربة الأولى لا يزول».
ليس هذا الكلام، بالطبع، إلا تقريرا لوقائع معروفة. ولكن رغم صحته، فإنه من الخطورة بحيث لا يمكن أن تسمع له مثيلا على أيّ من القنوات البريطانية، ناهيك عن الأمريكية. وقد أعاد المذيع السويسري الكرّة يوم 24 أيلول/ سبتمبر، حيث استضاف الدجال الصهيوني السيئ الذكر برنار هنري-ليفي، وتركه «يغنّي وجناحه يردد أنغامه» طيلة عشر دقائق، ثم أعلن مفاجئا: والآن ينضم إلينا الأميرال فيشو، وقبل أن يجلس ابتدره قائلا: لقد أثرت اهتمامي قبل أيام عندما قلت لي؛ إن تجربة الجيش الإسرائيلي غير النظامية تفيده في حروبه الحالية، فإذا بالأميرال يجدد أقواله بكل ثقة ووقار، غير مدرك على ما يبدو أن الحقيقة التي سيجهر بها، إنما هي صفعة موجعة في وجه الدجال الصهيوني، الذي بقي محصنا على مر العقود بمناخ إعلامي من الاحتفاء والتبجيل.
أجاب فيشو: «أي نعم. لقد وُلد الجيش الإسرائيلي في الإرهاب. إذ لم تكن دولة إسرائيل موجودة، وكان هؤلاء القوم يريدون آنذاك تحرير أرض ليست لهم! فأساس هذا الجيش هو الإرهاب. وجميع القادة الإسرائيليين ورؤساء الحكومات الأوائل، مارسوا العمل الإرهابي.
وكانت جميع الدول والسلطات القائمة تَعُدّهم إرهابيين وتصنفهم كذلك. وقد سمح لهم هذا بإنشاء إسرائيل ثم إكسابها مقومات الدولة. ولكن، يبقى أن الجيش الإسرائيلي لا يزال يحمل هذه العلامة المسجلة». في أثناء ذلك بُهت ليفي واغتمّ، وظل وجهه مسودا وهو كظيم.
وأكاد أجزم، أنه لم يسبق للجمهور أن رآه، هو الشخصية الطاووسية المختالة أبدا، في مثل هذه الحال المُزرية. حاول المسكين المبارزة فردد لازمة الهولوكوست (طبعا). ولأنه ليس عديم الحيلة، فقد أطرب السامعين بزعمه أن «الحامض النووي للجيش الإسرائيلي، إنما هو الكفاح ضد الاستعمار»!
القدس العربي