تنبيه هام: لو
كنت عزيزي القارئ من مشجعي كرة القدم؛ فهذا المقال لن يفيدك، فهذا المقال سيبتعد
قليلا عن الشعبوية إلى التأثيرات الحقيقية لمقتل الأمين العام لحزب الله.
يعترف علم
السياسة ولا سيما علم العلاقات الدولية بالجماعات الدينية أو الأيديولوجية كفاعل
مهم لا يمكن تجاوزه في حسابات العلاقات الدولية في أي إقليم، وتزيد أهمية هذه
الجماعات إذا ما كانت مسلحة، فالجماعات واسعة الانتشار، على عمومها، فاعل مهم في
هذا السياق. يشمل هذا التصنيف الجماعات الفاعلة مثل الجماعات الدينية أو المسلحة وحركات
التمرد والمنظمات شبه العسكرية، وتختلف أدوارها باختلاف السياق الذي تنخرط فيه
والمجال الذي تدور في فلكه، ويمتد تأثيرها حتى على سيادة الدول واستقرارها، إذا ما
انخرطت في الصراع على السلطة، لا سيما في النظام العالمي المستقر بعد الحرب
العالمية الثانية.
ولأن هذه
الجماعات غالبا ما تكون بحاجة إلى الدعم المادي واللوجيستي والعسكري في بعض
الأحيان، فإنها غالبا ما تركن إلى قوى أكبر وأكثر ملاءة منها لجبر هذا النقص، حتى
أنه في بعض الأحيان يتم استغلال هذه الجماعات في حروب تلك القوى بالوكالة، لتعزيز
مصالحها الجيوسياسية، أو تنفيذ أجندتها الأيديولوجية، كما هو الحال بين
حزب الله
وإيران، التي تلقفت الحزب من أول يوم، حتى أن اسم الجماعة اختاره الخميني بنفسه
(حزب الله). وكان اختيار الاسم "عبقريا بلا شك" لجذب العامة من غير
الشيعة، لا سيما وأن بدايات الحزب ترافقت مع اجتياح الاحتلال
الإسرائيلي للبنان.
أراد الخميني أن
تكون باكورة عمليات الحزب مدوية، ولافتة في ذات الوقت، فاختار تفجير مقر تمركز
القوات الأمريكية في لبنان، ليعلن عن نفسه كأحد القوى المناهضة للإمبريالية
الغربية. ومنذ أن بزغ اسم حزب الله وتعاقب الأمناء عليه حتى أمينها العام الثالث،
حسن
نصر الله، كان الحزب يناوش من بعيد، حتى قرر نصر الله أن يحيي الحزب من جديد
بعملية تعيد له رونقه، فكانت حرب 2006 فيما يعرف بحرب تموز، التي استمرت 34 يوما
في مناطق مختلفة من لبنان، خاصة في المناطق الجنوبية، وفي شمالي إسرائيل، فلأول
مرة يرى العرب جماعة مسلحة صغيرة تجابه "البعبع" الإسرائيلي الذي لم
يهزم في أي حرب سوى في أكتوبر 1973، ما يعني أن مجابهة هذا العدو ممكنة، حتى على
مستوى الأفراد، ما يعني أيضا أن معادلة القوة والردع تتغير في المنطقة.
بعيدا عن حالة الاختراق الأمني الذي أوصل إلى تمكين الاحتلال الإسرائيلي من رأس هرم القيادة في الحزب، فإن اغتيال حسن نصر الله له ما بعده في تشكيل القوى الفاعلة في الإقليم، كما أن دماء نصر الله سترسم لوحة العلاقات الدولية في الإقليم
نخلص مما سبق إلى
أن حزب الله كفاعل في الإقليم، حقيقة لا يمكن تجاوزها، لا شعبيا ولا على مستوى
المخططين الاستراتيجيين، ونخلص أيضا إلى أن
إيران فاعل آخر ومهم محرك للحزب، ولقد
استثمرت طهران في حزب الله المليارات على مدى أربعة عقود لتكون ذراعا طويلا لها،
في إطار استراتيجية المواجهة التي تتبناها طهران، بحجب الصراعات وإبقائها خارج
حدودها، وهو ما استطاعت فعله في السنوات العشر الأخيرة في لبنان والعراق وسوريا
وأخيرا في اليمن، بل وكسب مساحات نفوذ ومن ثم أوراق ضغط يمكن اللعب بها في
منافسات/ صراعات النفوذ في الإقليم. وكما كان حزب الله ورقة في يد إيران فقد حاولت
كل من أمريكا وإسرائيل الاستفادة منه في خلق فزاعات للمنطقة لابتزاز دولها
والاستفادة منه على المستوى الداخلي في الانتخابات.
لقد استطاع حزب
الله وأمينه العام الأطول ولاية، حسن نصر الله، أن يغير معادلة القوة في الإقليم بتدخلاته
داخليا في لبنان من خلال جناحه السياسي، حتى صار لبنان بمواردها حديقة خلفية
لسياسة واقتصاد إيران، وعلى المستوى الخارجي من خلال تدخلاته في سوريا ومناوشاته
المتكررة مع إسرائيل ودخوله في مفاوضات، في الأغلب يرعاها طرف غربي، للتهدئة مع
الاحتلال، أو تبادل أسرى. كما أن تدريبه لجماعات مسلحة مثل حماس والجهاد
الفلسطينيين، و"أنصار الله" الحوثية في اليمن، والمليشيات المتعددة في
العراق، جعل منه رأس حربة لإيران، ورديفا للحرس الثوري في كثير من الأحيان، في
معادلة طهران المحسوسة وغير المعلنة (العرب في المواجهات أولا)، وجعل من الحزب
نجما في هذا التحالف برعاية إيران، وجعل نصر الله نجما في سماء هذا التحالف ومعشوق
جماهيره.
بعيدا عن حالة
الاختراق الأمني الذي أوصل إلى تمكين الاحتلال الإسرائيلي من رأس هرم القيادة في
الحزب، فإن اغتيال حسن نصر الله له ما بعده في تشكيل القوى الفاعلة في الإقليم،
كما أن دماء نصر الله سترسم لوحة العلاقات الدولية في الإقليم، ولعل أول من سيؤثر
عليه تداعيات مقتل الأمين العام لحزب الله، هو رئيس مجلس الإدارة وأكبر المساهمين،
إيران، وإن كنا هنا لا يمكن أن نفوت كلمات الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان الأسبوع
الذي سبق مقتل نصر الله عن علاقة بلاده بأمريكا، وطموحه في علاقات أكثر دفئا مع من
وصفهم بالإخوة. ولعل تصريح مساعد رئيس إيران للشؤون الاستراتيجية، جواد ظريف، بأن
بلاده ليست مضطرة للدفاع عن أحد، كان إشارة لمصير نصر الله المحتوم.
ويقف على نفس
المرتبة من التأثر لكن بشكل إيجابي، نتنياهو ورئيس أركانه ووزير دفاعه الذين ذاقوا
الأمرّين على مدى قرابة العام في غزة ودخلت على الخط من بعدها الضفة، وخسائرهم التي
راكموها حتى باتت كالتلال كادت أن تنهال عليهم فتدفنهم، لولا هذه العملية التي
أخرجتهم من وحل غزة، وإن كان وحلها ما زال يلطخ وجوههم لإخفاقهم في تحقيق أي من
أهدافهم فيها، وإن كان نجاحهم في جنوب لبنان لا يحسب لهم؛ بقدر ما يؤخذ على تهاون
نصر الله وقادته في التعامل المرن والالتزام بالقواعد الاشتباك التي لا نعرف حتى
الآن من وضعها، وإن كنا نعرف من اتفق عليها، ناهيك عن الاختراق الأمني داخل الحزب،
إذ كان من حسن نصر الله مستهدفا في موقعة البيجر، فلما نجا كان القصف هو الحل،
وهنا أنا أؤكد أن العمليتين بدعم أعلى من قدرات إسرائيل.
وثاني أكبر متضرر
مع مقتل نصر الله، وخطة تل أبيب النافذة حتى الآن لتصفية سلاح
المقاومة (وهنا أنا
أعني المقاومة، لا حزب الله فقط، لأن الدور قادم على غيره في لبنان ثم الإقليم)،
هي المقاومة الفلسطينية، لكنني مع ذلك أرى أن رب ضارة نافعة، فالدرس واضح والحليف
انكشف، ولعل من لم يقتنع بعد اغتيال العاروري وهنية؛ سيقتنع الآن بأن السياسة لا
تعرف الشعارات، وأن تشرشل قد علم العالم بمقولته الأشهر، وأن الأيديولوجية حاكمة،
وأن على المقاومة الفلسطينية أن تعتمد على ذاتها من أجل الحفاظ على ثوابت هذه
الأمة ومقدساتها، وعليها أن تفتح الباب للمخلصين من أبناء هذه الأمة ليساهموا في
خدمة المشروع التحرري.
ينبري المحللون
في مناقشة احتمالية اندلاع حرب إقليمية واسعة، بمقتل حسن نصر الله، الابن المدلل
لإيران، لكن واقع العملية ودقتها والقوة التدميرية التي أحدثتها طائرات الاحتلال
والمشاركة المعلوماتية التي سبقت العملية لتحديد مكان الهدف وضربه، وما سبقها من
تصفية قادة الصف الأول والثاني من العسكريين والسياسيين في الحزب، يؤكد أن تفاهمات
ما تمت وأوصلت الأمور لما نراه الآن؛ فمحاولة نتنياهو جر أمريكا إلى الحرب في
المنطقة، قابله عرض أمريكي بتقديم صيد ثمين وتصفية الجماعة المسلحة الأكبر في
المنطقة، ولعل العرض كان مرضيا لنتنياهو المأزوم والموتور،
موقف الأمة الثائرة الثابتة عليه دور مهم وعلى مفكريها أن يقفوا الملية لكن يتحسسوا مواضع أقدامهم، فالفراغ الذي أحدثته انسحاب الأمة بفاعليها سيملؤه غيرها في المحيط، إذن فعلينا وبسرعة ملء هذا الفراغ بإعادة تشكيل الوعي وتنظيم الهياكل المنوط بها الحفاظ على هوية هذه الأمة وثوابتها
فكان حسن نصر الله هو
المقابل لهذه الصفقة، التي صمتت عليها طهران مضطرة، حتى لا يكرر سيناريو العراق
على أراضيها، لكن السؤال؟ هل هذا العرض ساري حتى نفاد الكمية، أم أن نتنياهو
الطامح في ولاية جديدة والهروب من مقصلة المحاكمة الداخلية والدولية سيسيل لعابه
من أجل المزيد فيما لو استطاع ابتزاز عجوز البيت الأبيض؟
إن المنطقة
تتغير، ولعل تغير المنطقة لم يبدأ بمقتل حسن نصر الله، فقد بدأ بتصفية الثورة
المصرية ومن بعدها ثورات الربيع العربي وإجبار السودان على التطبيع قبل أن تدخل في
دوامة الحرب الأهلية التي لن تهدئ قبل أن يعاد هندسة المنطقة، وهي إنذار لليبيا
التي تقف على قدم واحدة منذ أشهر بعد أن أحاطها الأمريكي ببراميل البارود ويحمل
بيده القداحة مهددا، والخليج الذي ينتظر اليوم التالي للحرب في غزة، يعرف جيدا
دوره في شكل الإقليم الجديد، فالأمريكي يرغب في شرق أوسط خالي من الإضرابات يكون
راعيه في تل أبيب، حتى يتفرغ لعدوه الاستراتيجي، الصين، وعدوه المرحلي، روسيا التي
لم يفلح بإغراقها في وحل أوكرانيا حتى الآن.
فإن كان التغيير
قادم لا محالة فإن موقف الأمة الثائرة الثابتة عليه دور مهم وعلى مفكريها أن يقفوا
الملية لكن يتحسسوا مواضع أقدامهم، فالفراغ الذي أحدثته انسحاب الأمة بفاعليها
سيملؤه غيرها في المحيط، إذن فعلينا وبسرعة ملء هذا الفراغ بإعادة تشكيل الوعي
وتنظيم الهياكل المنوط بها الحفاظ على هوية هذه الأمة وثوابتها. وأنا هنا لا ألوم
أحدا بل أحث الجميع على العمل من أجل نصرة هذه الأمة التي ثارت على وضعها
بثوراتها، من ثم نحتاج التحرك والعمل في كل المجالات بالتوازي مع وضع استراتيجيات
جامعة للأمة والعمل في الأقاليم كل بحسب المتاح دون الحيد عن الاستراتيجية.