مقالات مختارة

قراءة في ملف الاغتيالات الإسرائيلية

جيتي
برغم أن ملف الاغتيال والقتل خارج القانون والاستهداف الانتقائي كلها من أساليب نظام الاحتلال، إلا أن بعض حالات القتل تتميز بفظاعتها من جهة، وردود فعل بعض الجهات أو الدول من جهة ثانية.
وقد أصبح واضحا أن عيون العالم لا تذرف دموعها للقتل اليومي الذي يحصد أرواح المدنيين بشكل مكشوف، خصوصا خلال العام الأخير. مع ذلك، تحدث ضجة حين يكون الاستهداف وقحا وفظّا، ويحمل سمات التحدي للجهات أو الدول التي ينتمي إليها الضحية. وقد جاء قتل الناشطة التركية الأمريكية، عائشة نور إزجي البالغة من العمر 26 عاما، ليحرّك مشاعر الحكومة التركية نظرا لما فيه من تحدّ واستهتار.

ولكن السؤال: هل ستفعل تركيا شيئا؟ لم تكن الضحية عنصرا قياديا في مقاومة الاحتلال، ولكن مشاعرها الإنسانية دفعتها للمشاركة في احتجاج ضد التوسع الاستيطاني اليهودي في الضفة الغربية.

واعتبرت وزارة الخارجية التركية أن عائشة «استُهدفت وقُتلت عمدا على يد جنود إسرائيليين، خلال مظاهرة سلمية تضامنا مع الفلسطينيين».

الواضح أن القتل كان عملية اغتيال ميدانية، ولذلك فهي جريمة تقع ضمن «القتل خارج القانون».
والسؤال هنا: هل تمارس سلطات الاحتلال سياساتها ضمن القانون الدولي؟ أم إن الاحتلال نفسه ليس له صفة قانونية؟ ألا تعد الأمم المتحدة أن الوجود الإسرائيلي في الأراضي التي احتلت في العام 1967 غير قانوني؟ ولكن في عالم ليس فيه من يحمي القانون، استمر احتلال تلك الأراضي قرابة العقود الستة، ولا يلوح في الأفق احتمال إنهاء «إسرائيل» احتلال الضفة الغربية وغزة.

القتل أقسى ما يمكن أن يمارسه إنسان بحق آخر. ومنذ القدم كان البشر يتحدثون عن أن الإعدام هو عقوبة القتل. وجاء في شرائع الأمم السابقة «العين بالعين، والسن بالسن» حسب التعبير القرآني. والهدف من التشدد في العقوبة الردع عن إزهاق الأرواح وقتل الأنفس البريئة. ولكن التجربة البشرية تشير إلى أن الشر لا تردعه العقوبة حتى لو كانت الإعدام. هذا يؤكد قوة الشر وهيمنته على النفس الإنسانية، وضعف إرادة البعض أمام ما تعده «استفزازا»، أو دفاعا عن النفس، أو تصديا للآخر المناوئ.

 ومن الضروري التأكيد أن القتل ليس ممارسة محبّبة لدى أغلبية البشر، فهو ممارسة مقززة تخافها النفوس الطيّبة، ولا يقدم عليها ذوو العقل الراجح والأخلاق السامية. وقد حرّم الله الاعتداء على النفس، فعدّ قتل نفس واحدة بمنزلة قتل الناس جميعا: من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا. إنه التشريع السماوي الهادف لكبح النزوات الشيطانية واستبدالها بنوازع الخير والصلاح. فما أحلى الحياة حين يسود الحب والتفاهم والإخاء والرأفة، وما أقساها إذا استحوذ الشيطان على النفوس وعاث في الأرض فسادا بانتشار ثقافة الانتقام والتشفّي خارج القانون!

وتجدر الإشارة إلى أن القانون وحده لا يكفي لردع البشر عن ارتكاب الموبقات. وتقل قوته الردعية حين يتجرّد الحاكم من إنسانيته ويستبدلها بالقسوة والعنف. يضاف إلى ذلك، أن غياب الخوف من ردة الفعل والقدرة على إنفاذ حكم القانون، يشجع ذوي السلطة على ارتكاب الفظاعات بحق البشر. وهذا ما يحدث في الأراضي المحتلة، وما قَتْلُ الشابة المذكورة إلا تأكيد لذلك.

هل غريب أن يُقتل أكثر من 41 ألفا من الفلسطينيين أمام مرأى العالم ومسمعه؟ هذا العدد لم يُقتل دفعة واحدة في يوم واحد، بل على مدى أحد عشر شهرا، ضمن حملة عسكرية متواصلة لم يمتلك «العالم الحر» الجرأة أو الشجاعة أو الإنسانية للدعوة لوقفها.

صحيح أن الحكومة التركية تعهدت بإجراءات ضد كيان الاحتلال، ولكن ليس ورادا أن يكون هناك رد فاعل ورادع حقا. ألم تقتل القوات الإسرائيلية في أيار/ مايو 2010 عشرة من الأتراك الذين كانوا على ظهر سفينة «مرمرة»، التي كانت تسعى لكسر الحصار على غزة؟ كان هناك احتجاج كبير، ولكن لم يدفع المعتدون فاتورة جريمة قتل الأبرياء.
عندما استهدفت القوات الإسرائيلية الشابة الأمريكية راتشيل كوري في آذار/ مارس 2003 وقتلتها عمدا، تجاهلت الحكومة الأمريكية تلك الجريمة، ولم تتعرض قوات الاحتلال لرد حقيقي. كانت الشابة التي لم تكمل الرابعة والعشرين من العمر تحاول وقف جرافة عسكرية تابعة للقوات الإسرائيلية كانت تقوم بهدم مبان مدنية للفلسطينيين في مدينة رفح بقطاع غزة. وكان بإمكان سائق الجرّافة التوقف عندما اعترضت الشابة المتعاطفة مع القضية الفلسطينية طريقها، ولكنه لم يفعل، بل قتلها أمام كاميرات التصوير. يومها، حدثت ضجة كبرى لما اعتبر «إعداما» وقع خارج القانون، واعتقد البعض أن أمريكا سوف تتخذ إجراءات ضد القتلة، ولكن لم يحدث شيء. الحديث هنا يدور حول مواطنة أمريكية مارست حقها في الاحتجاج السلمي، ودفعت حياتها ثمنا لذلك على أيدي حليف مقرّب من أمريكا التي تدعمه بالمال والسلاح، وتصر على ضمان أمنه وتفوقه العسكري على الجانب العربي.

فماذا يعني ذلك؟ أليس ذلك الموقف تشجيعا على ارتكاب المزيد من القتل خارج القانون؟ هل غريب بعد ذلك أن يُقتل أكثر من 41 ألفا من الفلسطينيين أمام مرأى العالم ومسمعه. هذا العدد لم يُقتل دفعة واحدة في يوم واحد، بل على مدى أحد عشر شهرا ضمن حملة عسكرية متواصلة، لم يمتلك «العالم الحر» الجرأة أو الشجاعة أو الإنسانية للدعوة لوقفها. ما معنى أن يصمت إنسان أو حكومة أو مجتمع أو عالم على القتل الجماعي لآلاف المدنيين بشكل متواصل لم يتوقف يوما؟ كيف يمكن الحفاظ على أمن الكوكب وشعوبه من العقليات الشغوفة بالقتل والمصرّة على الانتقام بأبشع الأساليب؟

على مدى ثلاثة أرباع القرن، لم تتوقف آلة الموت الإسرائيلية عن استهداف أهل فلسطين، وكل من يمارس دورا ولو كان سياسيا لوقف عملها. هذه الآلة وسّعت نطاق عملها لتطال اغتيالاتها رموزا سياسية خارج حدود فلسطين، شملت لبنان والأردن ومصر والعراق وتونس ومالطا وسواها. تم ذلك تحت شعار «الدفاع عن النفس» الذي رفعته قوات الاحتلال. وكرّر المسؤولون الأمريكيون والغربية ذلك الشعار دون توقف، حتى بدا أن تكراره تبرير للقتل الجماعي الذي تمارسه قوات الاحتلال والاغتيالات خارج الحدود والقتل خارج القانون في كل مكان.

أهذا هو الشرق الأوسط الذي يتحدث البعض عن مشاريع لحماية أمنه بمشاركة إسرائيلية؟ فإذا كان الناس لا يأمنون على أنفسهم من الاعتداءات الإسرائيلية فما الأمن الذي يتوقعونه؟ إذا كان الفلسطيني مهددا بفقد حياته وتصفية عائلته وهدم منزله في أية لحظة دون تردد، فكيف يستطيع منح محتليه الثقة بإمكان التعايش الآمن على أرض فلسطين؟ هل هناك اليوم شعب يعاني من الاحتلال والتصفية وفقدان الأمن وتكالب الغربيين عليه كما هم أهل فلسطين؟

لقد أصبحت مشاهد الشباب والأطفال الذين هم في عمر الزهور، وقد مزقت آلة العدوان الإسرائيلية أشلاءهم دون رحمة، منظرا مألوفا يحدث كل يوم، وتتناقه وسائل التواصل الاجتماعي، حتى فقد تأثيره على النفوس لكثرة تكرره. وربما يكون ذلك ضمن سياسة إسرائيلية لتطبيع النفوس على التعايش مع القتل الجماعي والمشاهد المروّعة. فلو حدث واحد من تلك الجرائم في بلد آخر لاهتز العالم لفظاعتها، ولكن نظرا لتكررها في فلسطين، لم تعد قادرة على تحريك المشاعر وشحذ همم النشطاء للعمل لوقف العدوان المتواصل. إنها أزمة أخلاقية من شأنها أن تضعف المشاعر الإنسانية إزاء الكوارث والمآسي، والأحاسيس التي تعد ضرورة لتوجيه السلوك الإنساني.

وهكذا أصبحت مشاهد الدم التي تراق في غزّة غير ذات أثر على السياسين، وكذلك على البشر العاديين، لغزارتها، كما أصبح عويل الأمهات لفقد أبنائهن لا يحرّك مشاعر الأسى في النفوس. فليس الغربيون وحدهم الذين توقفت أحاسيسهم عن إدراك معاناة أهل فلسطين، بل العرب والمسلمون وصلوا إلى هذا المستوى من البرود في المشاعر، حتى توقفت أساليب الاحتجاج التي كانت من قبل مؤشرا للتفاعل مع قضية فلسطين.

فأين هي التظاهرات الداعمة لغزة والضاغطة على الأنظمة، ليس لوقف التطبيع فحسب، بل لدفع الحكومات لعمل شيء ما لحماية الأطفال والنساء والدفاع عن حق الحياة الذي تخلّت عنه قوات الاحتلال.