كتاب عربي 21

عاش كفاح الشيوعيين!

"بقيام ثورة يناير انكشفت مصر، فالهيمنة هي للإسلاميين وحدهم"- الأناضول
لم أمر على اليسار من أي باب، ولو عابر سبيل، ومع ذلك أفتقد لهتاف "عاش كفاح الشعب المصري.. عاش كفاح الشيوعيين"!

فعندما وفدتُ للقاهرة، في هذه التغريبة الاختيارية، كنت أعتقد أن سكان القاهرة محظوظون بوجود النقابة العامة للمحامين، ففي الأغلب الأعم يشهد مساء يوم الخميس من كل أسبوع مؤتمرا حاشدا عن الحريات، وفي وقت كان فيه هوى النقابات المهنية يساريا، وإن سمح بمؤتمرات ضد اعتقال الإسلاميين.

وكانت هذه المؤتمرات يحضرها رموز القوى الوطنية في مصر، ومن فتحي رضوان، إلى محمد عصفور، إلى حلمي مراد، إلى أحمد نبيل الهلالي، بجانب النقيب أحمد الخواجة بطبيعة الحال، في أيام كانت فيها مصر تزخر بمثل هذه الرموز، من كل ألوان الطيف السياسي. ونحن نعيش الآن في زمن القحط وعلى كافة المسارات، فحتى السلطة لم يعد فيها أشخاص يشار لهم بالبنان، أو بالسبابة.. قحط عم أرجاء البلاد، فهذا زمن أصحاب القامات المنخفضة!

حسام عيسى الذي كان:

كان يمكن لمثلي أن يلحظ أن هناك خلافا بين الشيوعيين والناصريين، وليس بينهما وبين الإسلاميين، وعندما تعطى الكلمة لرمز ناصري يكون الهتاف الذي يبدو للجاهل عفويا لا أكثر: "عاش كفاح الشعب المصري.. عاش كفاح الشيوعيين"، يختلط مع هتاف آخر: "عاش كفاح الشعب العربي عاش كفاح الناصريين"، فيبدو لك متناغما، ولكنه في حقيقته يعبر عن خلاف لا وحدة!

إذ كانت هذه الأيام ذكرى إعدام سيد قطب، فإن الرجل يحتاج إلى إعادة قراءة لتاريخه وتحولاته الجادة، على قواعد البحث العلمي، وبروح حسام عيسى سابقا، وليس بقواعد المكايدات السياسية التي تحكم المشهد الآن، والتعامل مع الأمر بهذه الخفة، بانتزاع موقف من هنا وكلمة من هناك من السياق العام خدمة لأغراض حزبية، وفي زمن تحول فيه حسام عيسى نفسه
وذات مؤتمر أعطيت الكلمة للدكتور حسام عيسى، وكان في مرحلة النقاء الثوري، وقبل أن تطفو على سطح بنيانه الجيناتُ السلبية بعد الانقلاب العسكري، وإسناد حقيبة التعليم العالي إليه، وقد حمل أوزارا من زينة القوم، وبعد حرقه سياسيا، والاستغناء عن خدماته لمصلحة الاستبداد، فلا نفع طبلة ولا طار، فلا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى!

قبل أن يبدأ كلمته تداخل هتاف "عاش كفاح الشعب المصري.. عاش كفاح الشيوعيين"، مع هتاف "عاش كفاح الشعب العربي.. عاش كفاح الناصريين"، وكان مدركا أن الهتاف الأول موجها ضده كناصري فأراح كل الأطراف بالاعتراف بخطأ المرحلة الناصرية في ملف الحريات، وقال إنه يؤمن أن "شهدي عطية وطني وشهيد، وأن سيد قطب وطني وشهيد"، فلم تملك القاعة إلا أن تصفق له تصفيقا حادا، بعدها أمكنه أن يشق طريقه بسهولة واقتدار!

لا يعرف كثيرون الآن "شهدي عطية"، أول روح تزهق بيد الحكم العسكري، وقد كان شيوعيا من المؤمنين بثورة يوليو وبأهدافها وبقياداتها، وكان يتصور أن اعتقاله "غلطة" وأن عبد الناصر عندما يعلم بأمر اعتقاله سيصدر قرارا بالإفراج عنه في الحال ويعتذر له، لكنه قتل من التعذيب الذي تعرض له بينما ناصر في يوغوسلافيا، لتكون نهاية كاشفة عن أن الحكم الديكتاتوري خطر حتى على الذين يوالونه!

من المفارقات أن سيد قطب كان مؤمنا مثله بثورة يوليو وبأهدافها، وبلغ حماسه لها أنه انحاز لحكم الإعدام الذي أصدرته ضد اثنين من عمال كفر الدوار، هما خميس والبقري، وهو الحكم الذي وقع عليه الرئيس محمد نجيب!

وإذ كانت هذه الأيام ذكرى إعدام سيد قطب، فإن الرجل يحتاج إلى إعادة قراءة لتاريخه وتحولاته الجادة، على قواعد البحث العلمي، وبروح حسام عيسى سابقا، وليس بقواعد المكايدات السياسية التي تحكم المشهد الآن، والتعامل مع الأمر بهذه الخفة، بانتزاع موقف من هنا وكلمة من هناك من السياق العام خدمة لأغراض حزبية، وفي زمن تحول فيه حسام عيسى نفسه، قبل أن يحال للتقاعد، فينتهي كسياسي كما انتهى كسلطة!

تصفية اليسار:

لقد تطور الأمر بعد ذلك سريعا، وتمت تصفية اليسار في الجامعات وهيمن الإسلاميون على النقابات، وبغياب اليسار كان الصراع بين أغلبية التيار الإسلامي وأقليته؛ الإخوان والجماعة الإسلامية، وشهدت بعض الجامعات معارك طاحنة، وانحاز الإخوان لمعركة الدولة مع الجماعات الدينية الأخرى، باعتبارها جماعات عنف، وبانتصار السلطة في المعركة مع هذه الجماعات، تسيّد الإخوان المشهد!

ولم يكن غياب اليسار سببه هو هذا الصراع فقط، لكن بالإضافة الى هذا فإن انهيار الاتحاد السوفييتي كان له أكبر الأثر على الإحساس بفشل المشروع، وكانت فرصة مقاول اليسار رفعت السعيد، الأمين العام لحزب التجمع اليساري، فاندفع تحت لافتة الخطر على الدولة من جماعات العنف الديني، ليبرم صفقة الموت مع السلطة، وكان المدفوع له ثمنا بخسا؛ عضوية له بالتعيين في مجلس الشورى، وواحدة بالتزوير لرئيس الحزب خالد محيي الدين، بجانب بعض التسهيلات الأخرى.

أما الناصريون فقد انتهوا بتأسيس حزب لهم، وكان يمكنهم بالدعم المالي الذي جاءهم من هنا وهناك أن يصدروا أكبر صحيفة ويؤسسوا أكبر حزب، لكنهم اختلفوا وتفرقوا وذهبت ريحهم!

وكأن الأحزاب هي بداية النهاية لأي تيار فاعل، وقد بدأ العد التنازلي لليسار في مصر بتأسيس حزب له بعد تجربة الحزب الواحد، واستمرار النظر للتنظيمات غير الرسمية على أنها مجرّمة قانونا، وزاد عليها السؤال ما هو المبرر لها مع وجود حزب شرعي؟!

كان زميلنا محمد منير، الصحفي اليساري المرموق رحمه الله، يتندر على المفارقة الغريبة كلما مررنا من أمام "كشري أبو طارق" في وسط القاهرة، والذي هو على مقربة من حزب التجمع! فيقول إن أبا طارق بدأ بعربة كشري في الشارع مع بداية حزب التجمع، انظر كيف صار برجا متعدد الطوابق، وكيف أصبح حزب التجمع؟

أحد الزملاء الناصرين كان يتندر بأن الإخوان تلقوا الدعم ليُنشئوا تنظيما كبيرا، أما الدعم للناصريين فقد أضعف الحالة، وإن نقل قيادات من طبقة إلى أخرى لأن الدعم كان يسلم لشخصيات بعينها، وكل دولة منحازة كان لها وسيطها المختار، فلم يذهب الدعم لمستحقيه!

انكشاف مصر:

بقيام ثورة يناير انكشفت مصر، فالهيمنة هي للإسلاميين وحدهم؛ المرتبة الأولى للإخوان، والثانية للتيار الإسلامي غير الإخواني، ويخوض حزب اليسار الانتخابات البرلمانية على قوائم الرأسمالية، حيث الشركة القابضة للأحزاب السياسية برئاسة رجل الأعمال نجيب ساويرس!

لم يستغل اليسار مساحة الحرية في الحضور، فكان البديل هو إفشال التجربة، ولو بالتحالف مع أعداء الثورة
وأي عاقل لا بد أن يقلقه هذا الفراغ، وكان ينبغي على الإسلاميين أنفسهم أن يقلقوا، لكنهم سعدوا بأنهم فقط الرقم الصحيح في المعادلة، وقد تصرف اليساريون كبلدياتنا في النكتة الشهيرة، وقد غرقت سفينة كانت تحمله مع أجانب في عرض البحر، واستقروا في جزيرة معزولة!

تقول النكتة: إن ماردا جاء ليلبي لكل منهم طلبا واحدا، فكان طلب كل واحد فيهم أن يعود إلى بلاده؛ إلى إيطاليا، إلى أمريكا، إلى فرنسا، وجاء الدور على صاحبنا فوجد نفسه وحيدا، فكان طلبه من المارد أن يعيد له زملاء الرحلة!

لم يستغل اليسار مساحة الحرية في الحضور، فكان البديل هو إفشال التجربة، ولو بالتحالف مع أعداء الثورة، وقد أدخلوا كل زناة الليل إلى حجرتها!

إن التنوع السياسي سمة من سمات المجتمعات الكبيرة، وإن هذا التنوع يحفظ توازن الحياة السياسية وهو ضمانة لاستمرارها، ولو تسيد فصيل واحد سيكون بداية النهاية!

إنني أتابع تجربة الاشتراكيين الثوريين، وأتمنى لها القوة والانتشار، لعودة اليسار القوي للبلاد، حتى لا تنتهي الحياة السياسية بانفراد فصيل واحد بالمشهد، وهو ما حدث بعد ثورة يناير!

فعاش كفاح الشيوعيين..

وعاش كفاح الجميع..

x.com/selimazouz1