الذاكرة السياسية

شهادة فرنسا على نفسها غداة الاحتلال قبل تطبيق سياسة التفريق بعد الاستقلال

في سنة 1857 احتل الفرنسيون منطقة القبائل، وفي السنة الموالية (1858) جمع المترجم الفرنسي، (الفونس مايير)، معلومات من أفواه شيوخ المنطقة وقدمائها عن أصل السكان هناك، وقدم هذه المعلومات إلى (المجلة الأفريقية)، فنشرتها سنة 1859 .. الأناضول
في سنة 1857 احتل الفرنسيون منطقة القبائل، وفي السنة الموالية (1858) جمع المترجم الفرنسي، (ألفونس مايير)، معلومات من أفواه شيوخ المنطقة وقدمائها عن أصل السكان هناك، وقدم هذه المعلومات إلى (المجلة الأفريقية)، فنشرتها سنة 1859 تحت عنوان (أصل سكان بلاد القبائل حسب العرف المحلي) (ص357)، وخلاصة المقالة المترجمة من الفرنسية إلى العربية، أن شيوخ بلاد القبائل يعتقدون أن أصلهم من العرب، ما عدا قبيلة (فراوسن، وإيجر وغوبري)، التي قالوا إنها فارسية، والمهم في هذا المقال، أنه مكتوب قبل أن تبدأ فرنسا سياسة (فرق تسد) في هذه الناحية من قلب الجزائر الثائرة، وأنه مستقى من أفواه شيوخ وكبار الناحية، بناء على التقاليد والأعراف المحلية (أو ما يعرف اليوم بالتاريخ الشفوي).

ومترجم النص هو الأستاذ محمد الشريف واشق، وقد نشر لأول مرة باللغة العربية في جريدة الشعب  الصادرة في الجزائر (يوم1981/4/29). ومما تجدر الإشارة إليه قبل استعراض بعض الفقرات التي تهمنا منه، هو أن الباي محمد الوارد اسمه في النص هو المدعو (محمد الفريرا) المشهور بالذباح، حاكم ولاية التيطري، التي كانت تتبعها بلاد القبائل وقتها وتولى أيضا قيادة سباو، بعد إنشائها، وكان من القادة الكراغلة البارزين أمثال محمد الكبير، والحاج أحمد، وهو مولود في المنطقة أيضا، ومن خريجي زاوية تيزي راشد المشهورة بالعلم في ذلك الوقت.

ومما ورد في هذه الشهادة الفرنسية الناطقة بلسانها على نفسها ما يلي بالحرف الواحد:  "يثبت العرف أن سكان جبال القبائل ينحدرون في غالبيتهم من بلدان أخرى، كما سنلاحظ  فيما بعد.. ويجب أن نعرف قبل كل شيء أن مدينة الجزائر قبل وصول الأتراك، لم تكن سوى بلدة ليس بها حكومة منتظمة، وبعد أن حل بها الأتراك اختاروا رئيسا من بينهم له السلطة أيضا على سكان مدينة الجزائر.

وامتدت السلطة التركية بالتدرج نحو متيجة، ثم نحو أهالي يسر، ثم إلى المدية ومليانة وأخيرا إلى المناطق الغربية التي أخضع الأتراك سكانها لاحقا.. وعندما أصبح الباي محمد قائدا، نشر جنوده الفساد والفوضى واضطهدوا العرب، وقد هرب هؤلاء إلى الجبال، بعد أن أصبحوا دون ملاذ آخر، ولم يجدوا الأمن على الأشخاص سوى في الجبال، وأمام ذلك سار الباي محمد بجيشه لمحاربتهم فهزمهم، وقد خاضوا ضده معارك مشهودة، أظهروا من خلالها كثيرا من الشجاعة، ولكن بعضهم هربوا أمامهم منهزمين، بينما الآخرون منهم ردوه على عقبيه، وتفاوض الباي مع هذا القسم من العرب وتوصل معهم إلى صلح، وبناء على هذا الصلح، فإنهم لا يدفعون له شيئا، كما أن لهم الحرية في الذهاب إلى أي مكان يرغبون فيه مع ضمان الأمن لهم.

هذا هو الوضع الديني في المغرب العربي والوحدة فيه واضحة لا قلق فيها، أما الذي سيكون محل استغراب القراء حتما، فهو ما أدعيه من أن المغرب العربي، بملايينه الثلاثين ( ) كلهم عرب، لا بربر فيهم، وقد لا يصدق القارئ هذا الادعاء بسهولة وهو يقرأ كل يوم في الصحف السيارة، ويسمع في الإذاعات العالمية، أحاديث طويلة ومتنوعة، عن البربر وعن أعمالهم ضد السلطان مرة، وضد الفرنسيين مرة أخرى، ويسمع بما يملأ آذانه من الحديث عن زعيمهم الأكبر الجلاوي باشا مراكش، إلى غير ذلك من الروايات المستفيضة.
وسنقدم الآن أصـل سكان جبال القبائل، كمـا جـاء في شهادات قدماء الناحية بأفواههم للضابط الفرنسي:

أهل فليسة:

إن سكان فليسة من أصل عربي، وقد جاء بعضهم من يسر (التابعة لولاية بومرداس حاليا)، ومعظم سكانها يتحدثون العامية العربية كدلس وبني ثور، والساحل وبرج منائيل وبني عائشة، وجاء آخرون من بني جعد وبني سليمان، وكلهم استوطنوا هذه الجبال، وهذا هو أصل كلمة (فليسة):

إن أول رجل أتى إلى هذه الناحية يسمى (فليسة)، واستقر في مكان يسمى (تيمليلين) يقع في الجبل المسمى حاليا باسم (فليسة البحر)؛ لأنه يطل على البحر، كان لفليسة خمسة عشر ولدا، وثروة طائلة، وقد التحق كثير من الناس بفليسة مهاجرين، وخضعوا إليه وطلبوا منه أن يكون رئيسا عليهم، فقبل ذلك وأعطى اسمه إلى الناحية كلها.

وقد سار الباي محمد على رأس جيشه ضد فليسة، وخاض معه معركة، ولما وصل الباي إلى جبل يسمى (ياسين) هزمه فليسة، وقتل له عددا كبيرا من الجنود، وطارده، والسيف مصلت وراءه، مسافة حوالي سبعة أميال، ولما وصل الباي إلى مدينة الجزائر، كتب إلى فليسة يخبره بإعفاء قبيلته من السخرة، ومن دفع الضرائب، ولهذا السبب لم تكن فليسة البحر تدفع ما كانت الحكومة في العادة  تفرضه على غيرهم من سكان المنطقة.

وبعد هذه الحملة بقليل، شن الباي محمد حملة أخرى ضد الذين التجؤوا إلى الجبل المسمى (فليسة أومليل)، وتوجه إلى مكان يسمى (جبل مزغيت)، ولما علم فليسة بهذه الحملة، أرسل أحد أبنائه ضد الباي على رأس 500 رجل، وحين وصل ابن فليسة إلى جبل مزغيت، سارع السكان الذين ثاروا ضد الباي منذ وصوله، إلى وضع أنفسهم تحت إمرته بحماس، وكان ابن فليسة يعرف الطريقة التي يعامل بها الباي، الذي سبق أن حاربه في قبيلة أبيه فليسة، وهكذا وضع سكان جبل مزغيت أنفسهم بين أيدي ابن فليسة، ووعدوه بالطاعة العمياء، وانطلق ابن فليسة ضد الباي وهزمه شر هزيمة وطارده إلى يسر.

وبعد هذه الهزيمة، كتب الباي محمد إلى ابن فليسة، رغم اعترافه به عدوا له، قائلا؛ إن قبيلته لا تخضع لأي سخرة، ولا تدفع أي ضريبة مهما كان نوعها.

وعلى أثر هذه الأعمال التي قام بها ابن فليسة، سمي رئيسا للناحية بصفة نهائية.

وإن عدله وعلمه قد جعلا سكان هذه الناحية يدينون له بالولاء، ويتركون له إدارة شؤونهم، وهكذا استقر بجبل مزغيت تاركا والده وإخوانه في تيمليلين.

ومنذ استقراره، أصبحت هذه الجهة تسمى (فليسة أومليل)، (فليسة) مأخوذة من اسم والده و(أومليل) من تيمليلين، وهو اسم المكان الذي تركه ابن فليسة قبل استقراره في جبل مزغيت.

بني واقنون:

كان الجبل الذي احتل من طرف "بني واقنون" يسمى "جاديس مزرانة" التابعة حاليا لولاية تيزي وزو،  وكانت من أهم معاقل حرب التحرير حتى توقيف القتال.

وكان أول من استقر بهذه المنطقة يسمى "قنون" وقد هاجر كثير من الأشخاص إلى هذه المنطقة وتركوا له إدارة شؤونهم كذلك، وبصفته رئيسا على المنطقة، فقد سمى الجبل باسمه، واتخذ السكان اسم (بني واقنون)، وقد خضع (بني واقنون) إلى المخزن، حيث كانوا يدفعون الضرائب للأتراك، وذلك للأسباب التالية:

في البداية كان الباي محمد عندما يتقدم إليهم، يدفعونه، الشيء الذي أرغمه على أن يسلم إليهم رسائل إعفاء تشبه تلك التي ذكرت أعلاه.

وبعد فترة من الزمن جاء عندهم (سيدي عمر بن إبراهيم) الجد الأول للشرفة (الأشراف)، وكان رجلا متضلعا في علوم الفقه وفي الشريعة الإسلامية، حيث استقر في مكان يدعى (ثالة انتملال) ووهب نفسه لتعليم الأطفال.

بني جناد:

إن أول رجل جاء ليستقر في هذا البلد، هو عربي يسمى (جناد)، وكان قويا ذا ثروة طائلة، وكان معه إخوته ومجموعة من الفرسان يتاهز عددهم  للثلاثمائة  فارس، استقر في مكان يدعى الآن "أبيزار"، يقال إن "جناد" سمى هذا المكان تخليدا لأحد إخوته الذي كان يسمى "بيزر"، الذي قتل في جولة على يد الباي محمد.

وعند وصول "جناد" إلى هذا البلد، التحق به كثير من الأشخاص، وأعلنوه رئيسا عليهم، وعندما هاجمه الباي محمد هزمه(جناد) وكبده خسائر كبيرة، وكعادة الباي محمد أرسل إلى (جناد) رسائل إثبات تقضي بألا يدفع أي رسم ولا يقدم أي عمل للمخزن، مهما كانت طبيعته، وبانتصار (بني جناد) على الباي استطاعوا التمتع بالإعفاء الكامل الذي بقي يشملهم إلى أيامنا هذه، وقد أعطى (جناد) اسمه للقبيلة التي يحكمها، والتي يقال إن أصلها من «يسر» ومن فرع «بني كعنون» هذا كل ما عرفناه عن هذه القبيلة.

زخفاوة:

إن أول رجل جاء ليحتل هذا الجبل، كان يسمى "زريغفة"، وبتبديل حرف "غ" بحرف "خ" الذي نجده صعبا في النطق، يصبح اسمه "زريخفة"، وأخذت القبيلة التي يحكمها اسم "زخفاوة". ويقال؛ إن أصل "زخفاوة" من حمزة (التابعة لولاية البويرة حاليا). وهي مثل بومرداس يتحدث معظم سكانها بالعامية العربية  في الجنوب والقبايلية في الشمال المتاخم  لجبال جرجرة الأطلس التلي.

لم يهاجم الباي محمد هذه القبيلة؛ لأنها انتصرت عليه حين حارب بني جناد، وهو لا يريد العودة إلى هذا الجانب؛ لأنه يعلم بمساعدة الزخفاويين (لبني جناد) في حربه، مما جعل الداي ينظر إليهم كما ينظر إلى (بني جناد)، كما أنهم معفون من التزامات المخزن، مثل بني جناد.

بني راتن:

أول من استقر في هذا الجبل كان يسمى "أورتعين"، وكان رجلا قويا فائض الطاقة ويملك أموالا طائلة كذلك، وقد أتى أناس من مقاطعات مختلفة، ليجتمعوا حوله ويخضعوا لسلطته، وبذلك أخذت هذه القبيلة اسمه الذي تم حذف حرف الواو منه وأصبح بذلك "بني راتن". وربما تحمل معنى بالقبائلية حسب اجتهادنا يمكن ترجمته (ببني صدهم)، أي صد المعتدين لأن (يراثن) معناه الحرفي بالقبائلية هو (صدهم)، وقد سار الباي محمد ضد "بني راتن"، حيث حاربهم ودفعهم إلى غاية تيزي راشد، حيث كان يسكن الشيخ أعراب، شيخ إحدى المدارس التي كان يعلم فيها الفقه والشريعة الإسلامية، وعندما وصل الجنود إلى بيته، خرج الشيخ ووقف على عتبة الباب، ومد يديه نحوالجنود الذين تم طردهم وملاحقتهم، وبعد هذا التدخل الذي قام به الشيخ أعراب، الذي حصل بعده على النصر، أصبح "بني راتن" يخضعون كل الخضوع إلى هذا القائد وإلى خلفائه، وعند عودته البائسة، كتب الباي محمد إلى "بني راتن" رسالة قائلا لهم؛ إنه لن يقوم بأي عمل ضدهم، كما أنهم لن يدفعوا أي ضريبة، ما عدا ضريبة تجارية سنوية لا تتعدى (50 ريال) (أي 125 فرنك فرنسي وقتها).

بني عيسى:

أول من احتل المنطقة التي يوجد فيها حاليا بنو عيسى كان من أصل عربي من قبيلة أولاد سيدي عيسى، وقد تم تلقيبه بالعيساوي نسبة إلى قبيلته كما تم حذف حرف الواو للنغمة، ومنح اسم بني عيسى للقبيلة التي كان يحكمها.

امتدت تسمية بني عيسى على المعاتقة، وبني زمنزار وبني دوالة وبني محمود، ومن بين هذه القبائل، هناك المعاتقة، وبنو بوهينون التي كانت تدفع الضرائب، وتخضع لشروط المخزن لوجودهم قرب الساحل، أما بنو محمود والسكان القاطنون في الجبال، فلم يخضعوا أبدا لقيود الحكومة، ولم يدفعوا أي ضريبة.

بنو يني ـ بنو بودرار ـ وبنو علي أوحرزون:

1 ـ بنو يني:

أول من أقام في هذه القبيلة، كان يسمى "نايلي" نسبة إلى بلده الأصلي، حيث كان ينتسب إلى قبيلة عربية "بأولاد نايل" الواقعة بولاية الجلفة حاليا، وكان اسمه صعب النطق، مما أدى إلى حذف اللام الذي استبدل بالنون، وبعد هذا التغير تمت تسمية سكان القبيلة ( بنو يني.)

2 ـ بنو بودرار:

أول من أقام في هذا الجبل كان يسمى "بودار" وتم إضافة "راء" ثانية إلى اسمه الذي أصبح بودرار، وتمت تسمية القبيلة التي كان يحكمها باسمه الخاص، مسبوقة بكلمة بني (أولاد) ويقال إن بودار من عرب (الزاب).

3 ـ بنو علي أو حرزون:

أول رجل حكم هذه القبيلة من أصل عرب التيتري، وهو الملقب "بعلي أو حرزون"، وقد قبل من جاوره الخضوع إلى سلطته، كما أخذوا اسم علي أحرزون.

لم يتجه الباي محمد إلى هذه القبائل الثلاث، والسبب يتلخص في الآتي: عندما قام بحملة ضد بني راثن، علم أن فيالق هذه القبائل الثلاث أتت لمحاربته، كما وقفت أيضا مع أعدائه، وبذلك ضمهم إلى من كانوا يتمتعون بالإعفاء، مثلما كان الحال بالنسبة لبني راتن، وسجلهم في سجل واحد، فكانت هذه القبائل الثلاث معفاة من الضرائب ومن أعمال السخرة الحكومية.

بنو يحي:

أتى شخص اسمه "يحي" من أصل عرب بني سليمان يقيم في هذا البلد، وأعطى اسمه للقبيلة التي كان يحكمها.

إيلولة:

يرجع أصل هذا الاسم إلى أول إنسان أقام في هذا البلد الذي يقيمون فيه حاليا، واسمه "ملول"، وقد حذف حرف الميم لتسهيل النطق ووضع مكانه حرف الهمزة مكسورا، وأصبح بذلك "إيلولة" الذي تحمله القبيلة المذكورة، ولم يوضع اسم (بني) قبله؛ لأنه قد يكون ثقيلا على السمع ويلول من أصل عرب "فرجيوة" الموجودة شرق سطيف".

ويورد الباحث العديد من الملاحظات في النهاية عن أصل وتسمية بعض القبائل، والتغيير الذي طرأ على نطق أسمائها محليا.

ومن هذه الملاحظات قوله عن أصل ما يعرف في المنطقة بالمرابطين أو الأشراف فيقول:

"سنتحدث هنا عن مرابطي الزوايا مثل: شرفاء بني واقنون ـ شرفاء بهلول ـ شرفاء أوزريق في بني جناد، وكل من يحمل اسم شريف في زوايا القبائل، يقال إنهم كلهم من أصل غربي (أي من الغرب)، فعندما يصل أحد علمائهم يستقر في القبيلة التي تعجبه، يستقبله سكانها بإعجاب واحترام مطالبين إياه بتأسيس مدرسة يعلم فيها أهل القبيلة الواجبات الدينية، ويتولى فض الخلافات التي تنشأ بينهم، وكان الرجل الشريف جد محبوب لدى أفراد القبيلة؛ نظرا لمعرفته الواسعة وسلوكه المستقيم.

ولا يوجد في هذه القبائل معلمون غير الطلبة (العلماء)، الذين استقروا حيث استقبلهم السكان بكل عناية وأحاطوه بكل احترام.

كان سكان المغرب العربي قبل دخول الرسالة الإسلامية العربية، بربرا لا خلاف في ذلك، ولا يهمني ما يذهب إليه بعض المؤرخين، من أن هؤلاء البربر أنفسهم، إنما هم من أصل عربي، وإنما الذي يهمني والذي لا شك فيه، أن أولئك البربر قد تعربوا جميعا بعد الهجرات العربية المتوالية على ديارهم..
فعندما يستقر طالب (عالم) في قبيلة ما، كان أولاده وأحفاده يستقرون فيها نهائيا، مع الاحتفاظ بالمكانة التي يحتلها آباؤهم وأجدادهم، فكانوا ولا يزالون معتبرين ومحترمين من طرف سكان القبيلة حيث يوجدون حاليا". انتهى نص البحث المنشور في المجلة الأفريقية باللغة الفرنسية سنة 1858.

هذا عن شهادة فرنسا على نفسها، قبل أن تنتهج سياسة "فرق تسد" فيما بعد!؟

أما عن كيفية تعريب البربر بعد إسلامهم، فإن أحسن من نراه يتحدث عن هذا الموضوع من داخل منطقة القبائل ذاتها، هو الأستاذ الفضيل الورثلاني حيث يقول حرفيا: "هذا هو الوضع الديني في المغرب العربي والوحدة فيه واضحة لا قلق فيها، أما الذي سيكون محل استغراب القراء حتما، فهو ما أدعيه من أن المغرب العربي، بملايينه الثلاثين (  ) كلهم عرب، لا بربر فيهم، وقد لا يصدق القارئ هذا الادعاء بسهولة، وهو يقرأ كل يوم في الصحف السيارة، ويسمع في الإذاعات العالمية، أحاديث طويلة ومتنوعة، عن البربر وعن أعمالهم ضد السلطان مرة، وضد الفرنسيين مرة اخرى، ويسمع بما يملأ آذانه من الحديث عن زعيمهم الأكبر الجلاوي باشا مراكش إلى غير ذلك من الروايات المستفيضة، التي تجعل وجود البربر في المغرب العربي ثابتا بالتواتر. أجل مع هذا كله فإني أزعم، وبعض الزعم حق، أن ليس في المغرب العربي بربر على الإطلاق، وأتحدى من يستطيع أن يثبت غير ذلك، وإليك توضيح الأمر.

كان سكان المغرب العربي قبل دخول الرسالة الإسلامية العربية، بربرا لا خلاف في ذلك، ولا يهمني ما يذهب إليه بعض المؤرخين، من أن هؤلاء البربر أنفسهم، إنما هم من أصل عربي، وإنما الذي يهمني الذي لا شك فيه، أن أولئك البربر قد تعربوا جميعا بعد الهجرات العربية المتوالية على ديارهم..

أما أهم أسباب هذا التعريب فثلاثة: الدين، واللغة، والتزواج وكان الدين أسبق الثلاثة إلى التحكم في مصير البربر، فلقد اعتنقوا الإسلام عن شوق وقناعة، وأحبوه من أعماق قلوبهم، وأخلصوا لتعاليمه أشد الإخلاص، ثم أحبوا معه، ومن أجله كل ما صحبه من مقومات، أحبوا أهله العرب حبا لم يكن يخلو من الغلو، حتى كان البربري يرى أن الاصهار إلى العربي والتقرب منه، إنما هو شرف كبير له، بل هو في نظره ضرب من العبادة، والتقرب الى الله؛ لأن هذا العربي في نظره، إنما هو رسول الله إليه، وأنه مجاهد في سبيل تبليغ رسالة الحق المقدسة، وأنه مرابط في الثغور، بعيدا عن أهله وعن وطنه، وأنه يفعل كل ذلك، في سبيل إعزاز كلمة الدين والحق، وفي سبيل نشر مبادئه السمحة الخالدة، وساعد على تسهيل التزواج والاختلاط، أن حملة رسالة الإسلام الأول من العرب كانوا بدورهم يؤمنون بأن دينهم لا يفرق بين عربي وعجمي، ولا بين أبيض وأسود إلا بالتقوى، من هناك، شاع التزواج بين العرب والبربر، وابتدأ منذ الفتح، وظل يتسع نطاقه حتى يوم الناس هذا، وقد مضى أربعة عشر قرنا على هذا التلقيح، لا يقف في طريقه واقف".

وهذا التحليل الوارد على لسان الورتيلاني سنة  1955 يقره عليه باحث من المغرب سنة 1996، حيث يقول الأستاذ الحسن بلحسن: "لا يمكن القيام بعملية بتر وفصل وتقسيم الجسد الواحد لكون العربي امتزج وتزوج بالأمازيغية، كما  أن الأمازيغية  تناسلت من عربي بل أكثر من هذا أننا  نتحدى من يستطيع أن يتميز من بين السكان الحاليين من هو العربي ومن هو الأمازيغي، ذلك أن مجموعة من الناطقين بالأمازيغية في الأرياف، هم  عرب أصلا، والعديد من القبايل البربرية تعربوا في الحواضر منذ قرون، ومايزالون كذلك حتى  الآن.".

ذلك هو الوضع ـ إذن ـ في بلاد القبائل الحالية في الجزائر، وفي المغرب كذلك، بشهادة الفرنسيين (المحتلين) أنفسهم، ومهما يكن من أمر في احتمال المبالغة في وصف قساوة الحكم العثماني (التركي)، إزاء الأهالي العرب المسلمين لأسباب وأغراض واضحة ومفهومة (...)، فإن الحقائق المذكورة حول أسماء بعض القبائل وأصولها العربية أو الفارسية، هي حقيقة من حيث الرواية على الأقل، أي أنها قد رويت للضابط الفرنسي، ولم يكن لفرنسا ـ حينئذ ـ أي مصلحة في ذكرها. بل العكس هو الصحيح، حيث يوجد مضرة بمصالح فرنسا (المحتلة) في ذكرها بالنسبة لتطور أساليب الاحتلال فيما بعد في أحكام قبضته الجهنمية على البلاد والعباد، ومحاولة تذويب الشخصية، وتأبيد الاحتلال الكامل للجزائر ترابا وشعبا، بهدف ضمها النهائي إلى فرنسا "الأم" كما كانت تسمى نفسها قبل ثورة التحرير، واعتراف فرنسا الرسمية بأوراق الاستقلال بعد الاستفتاء الساحق على تقرير المصير.