مقالات مختارة

الأزمات السياسية لا تُحسم بالاغتيال

جيتي
في المنظور القانوني، يعدّ الاغتيال «قتلا خارج إطار القانون»، ومن ثم فهو جريمة غير مبرّرة، أيّا كان فاعلها. لذلك اعتُبر القضاء العادل من أهم مميزات الدول المتحضّرة؛ لأنها لا تمارس الانتقام خارج إطار القانون. كما يمثل الاغتيال تجاوز سلطة القانون والانطلاق بدوافع الانتقام، والرغبة بتحقيق الغلبة على الطرف الآخر. كما أنه لا يحسم المعركة السياسية في أي بلد، ونادرا ما يُحدث خللا في التوازن السياسي. ولكنه أحيانا يُدخل الخوف في نفوس المعارضين، خصوصا إذا كان نظام الحكم في بلدهم دمويا وشرسا. وكثيرا ما يتلازم مع الاغتيال قتل نفوس بريئة كالنساء والأطفال.

ويمكن القول كذلك؛ إن اللجوء للقتل خارج القانون يمثل ضعفا وليس قوة.

وبشكل عام، ليس هناك عمليات اغتيال «نظيفة» بمعنى عدم سقوط ضحايا أبرياء خلال عملية القتل الانتقامي. فما مدى ما يسمح به القانون من قتل غير المذنبين خلال تلك العمليات؟
وتمارس القوات الأمريكية عمليات الاغتيال على نطاق واسع، ويندر أن تراعي الضحايا المدنيين المتوقع قتلهم أو إصابتهم عند إطلاق صاروخ او قصف بالطائرات.

العالم العربي، شهد موجة من الاغتيالات السياسية بعد إجهاض ثورات الربيع العربي، وهذا يمثل تحديا للوضع الأمني في منطقة تشهد احتقانا سياسيا وتوترا مجتمعيا في ضوء ذلك. ونجم عن ذلك دورة من العنف والعنف المضاد، اتسع نطاقها لتشمل عددا من الفئات، مثل السياسيين والعسكريين ورجال القضاء والشرطة والفنانين والنشطاء السياسيين. حدث ذلك في تونس وليبيا واليمن وبلدان أخرى. ومع إطلاق الزمام لأجهزة الأمن غير المنضبطة، انتشر الخوف بين المواطنين على نطاق واسع في السنوات العشر التي أعقبت استهداف الثورات والتنكيل بالمشاركين فيها.

وتتواصل عمليات الاغتيال في بلدان العالم كذك. ففي كانون الثاني/يناير 1948، اغتيل المهاتما غاندي بثلاث رصاصات من بندقية هندوسي متطرف، واغتيل الرئيس الامريكي جون كنيدي في تشرين الثاني/نوفمبر 1963، كما قتل رئيس الوزراء الياباني السابق، شينزو أبي في تموز/يوليو 2022. واغتيل الرئيس محمد أنور السادات في ما سمي «حادث المنصة»، خلال عرض عسكري أقيم بمدينة نصر بالقاهرة في 6 تشرين الأول/أكتوبر 1981 احتفالا بذكرى حرب أكتوبر مع «إسرائيل» في 1973. وفي أيلول/سبتمبر 2001 اغتال تنظيم «القاعدة» أحمد شاه مسعود في داره. وكان مسعود آخر قائد بارز مقاوم لحركة طالبان، حليفة التنظيم الجهادي في شمال أفغانستان. وفي عام 2004 لقي الرئيس الشيشاني أحمد قديروف مصرعه؛ إثر انفجار عبوة ناسفة في ملعب لكرة القدم في العاصمة الشيشانية غروزني، وذلك خلال الاحتفال بعيد النصر على ألمانيا الفاشية. وفي أيلول/سبتمبر 2011 اغتيل برهان الدين ربّاني الرئيس الأفغاني الأسبق، الذي كان يقود جهود السلام في أفغانستان، في هجوم انتحاري استهدف منزلهِ في كابول. وفي تموز/يوليو 2021 اغتيل رئيس هايتي «جوفينيل مويس» على أيدي مجموعة مسلحة، تتألف من 26 كولومبيا واثنين من هايتي، وسط حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي. واغتيل محمود المبحوح في كانون الثاني/يناير 2010 في دبي. وناجي العلي في آب/أغسطس 1987 في لندن.

هذه الأمثلة، تكشف طبيعة الاغتيال وفضاءاتها ودوافعها ذات الطابع السياسي في الأغلب، كما تكشف إصرار الأطراف على التخلص من مناوئيهم بالعنف إذا اقتضى الأمر. ولإظهار قدرتها على استهداف أي شخص في أي مكان.
نفذت «إسرائيل» اغتيالات ومحاولات اغتيال استهدفت قادة وعناصر بارزة من معارضيها. فمنذ العام 1972 تبنّت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية سياسة اغتيال المناضلين الفلسطينيين. فاغتيل في تموز/يوليو من ذلك العام غسان كنفاني، المناضل والأديب، بتفجير سيارته في بيروت، ثم وائل عادل زعيتر (ممثل منظمة التحرير) ومحمود الهمشري (ممثل المنظمة في فرنسا). وشهد العام التالي (1973) اغتيالات إسرائيلية متواصلة، أدت لاستشهاد عدد كبير من المناضلين منهم: حسين أبو الخير وباسل الكبيسي ومحمد يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر وزيد مقصي ومحمد بودية وأحمد بوشيقي. وفي العام 1979 اغتال الإسرائيليون كلا من علي حسن سلامة (قيادي بمنظمة أيلول الأسود) وزهير محسن (زعيم منظمة الصاعقة). أما في الثمانينات فطالت الاغتيالات كلا من فضل الضاني ومحمد حسن بحيص وباسم سلطان (حمدي) ومروان كيالي ماجد أبو شرار وخليل الوزير.

وفي التسعينيات، طالت الاغتيالات عددا من القياديين الفلسطينيين من بينهم: صلاح خلف وهايل عبد الحميد وأبومحمد العمري والسيد عباس الموسوي (أمين عام حزب الله) وعاطف بسيسو وعماد عقل (كتائب القسّام)، وسعيد السبع، وفتحي الشقاقي ويحيي عياش.

وشهدت السنوات العشر الأولى من الألفية الجديدة اغتيالات بالجملة، من بينهم: جمال عبد الرزاق وثابت ثابت (حركة فتح) ومسعود عياد (منظمة التحرير)، جمال منصور (حماس)، جمال سليم (حماس)، عماد أبو سنينة (فتح)، أبوعلي مصطفى (الجبهة الشعبية )، محمد أبو هنود (كتائب القسّام)، راشد الكرمي (كتائب شهداء الأقصى)، محمود الطيطي (شهداء الأقصى)، حكم أبو عيشة (شهداء الأقصى)، رياض بدير (قائد معركة مخيم جنين)، ياسر سعيد رزق (القسّام)، مهند الطاهر (القسّام)، صلاح شحادة (القسّام)، إبراهيم المقادمة، إسماعيل أبوشنب (حماس)، الشيخ أحمد ياسين (مؤسس حماس)، عبد العزيز الرنتيسي (أحد مؤسسي حماس)، عز الدين خليل، عدنان الغول (حماس)، إحسان شواهنة (حماس) ومبارك الحسنات.

عندما استهدفت القوات الإسرائيلية الأسبوع الماضي محل إقامة إسماعيل هنيّة في طهران، وقتل معه حارسه الذي كان معه في المنزل، لم يكن الاغتيال مفاجئا لأحد؛ ففي ظل مسلسل الاغتيالات، أصبح واضحا أن القيادات الفلسطينية تتصدر قائمة الاستهداف. وهي تعلم ذلك، ولذلك تتخذ إجراءات أمنية احترازية دائما؛ فقد كان هنيّة مدعوّا لحضور حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بزشكيان، الذي انتخب حديثا. المشكلة تكمن في حجم هذه الإجراءات؛ فالزعيم القائد يرفض التوقف عن العمل لتحرير أرضه، ويسعى لإحداث توازن بين أمنه الشخصي وما يعدّه «واجبا» وطنيا أو شرعيا. وتؤكد قوائم الاغتيال، عمق إصرار القيادات الفلسطينية على تعدد خلفياتها الأيديولوجية والتنظيمية على تصدر المشهد، وعدم الانكفاء أمام احتمالات الاستهداف من قبل العدو؛ لأن ذلك يمنح المحتلين هيبة لا يستحقونها. ويعتمد الإسرائيليون بشكل كبير على الدعم الأمريكي المتواصل الذي لم يتوقف يوما، حتى عندما تستخدم قوات الاحتلال ذلك الدعم لقتل الفلسطينيين وارتكاب جرائم ضد الإنسانية لا يمكن حصرها.

هذا يعني أن قضية فلسطين وصلت مرحلة «كسر العظم» بين أصحاب الأرض ومحتليها، وهذا أمر مقلق للطرفين؛ فالإسرائيليون لم يحقّقوا ما يحلمون به من أمن في ما يسمونه «أرض الميعاد» بعد مرور أكثر من ثلاثة أرباع القرن من الاحتلال. ولم تصل أمريكا مرحلة الرشد المطلوب من قوة عالمية كبرى، مطالبة بقيادة تحقق أمن العالم واستقراره. كما أن الفلسطينيين لم يتزعزعوا تحت وطأة الضغوط الإسرائيلية وسياسات القتل والتدمير التي يمكن وصف بعضها بالإبادة. ومن هذا يتضح أن القضية الفلسطينية لا يمكن حسمها بالضربة القاضية، كما يعتقد بعض زعماء «إسرائيل». أما الفلسطينيون، فهم أمام خيارين: الرضوخ للاحتلال بالاعتراف بالهزيمة والتخلي عن الأرض، أو الاستمرار في مشروع النضال بانتظار تطورات قد تزلزل التوازن القلق الذي تعيشه المنطقة. أما الاغتيالات، فلن ترجّح الكفة الإسرائيلية كثيرا، بل ستكرّس شعور الفلسطينيين بضرورة التصدّي للاحتلال مهما كان الثمن؛ فبرغم المجازر التي تعرّضوا لها في العقود الأخيرة (ابتداء من دير ياسين مرورا بصبرا وشاتيلا وصولا إلى مجزرة غزة التي راح ضحيتها قرابة الأربعين ألفا)، ما زالت قضية فلسطين تنجب أبطالا يحملون الراية، ويتحدّون الاحتلال، ويحلمون بتحرير أرضهم. إنهم يعرفون بوضوح ما ينتظرهم من مصير من قبل المحتلّين القساة، ولكنهم راضون بذلك القدر. لذلك، عجز المحتلون وداعموهم الغربيون عن حسم الأزمة برغم تفوقهم العسكري الهائل، والسبب أن التمسك بالحق يضاعف قوّة الإنسان وإرادته، فتصغر التضحيات في عينيه، ويتمرد على شبح الموت والاغتيال. أليس صمود أهل فلسطين مصداقا عمليا لذلك؟ وعندما يلجأ المحتل للاغتيال والقتل الجماعي وانتهاك القوانين الدولية، فإنما يؤكد خسارته، ليس الأخلاقية فحسب، بل الميدانية كذلك. لطالما حلم الفلسطيني المشرّد بالعودة إلى وطنه، فاستبسل في الثبات والصمود، حتى حملته الملائكة إلى عالم الخلود، أليس هذا ما حدث لإسماعيل هنيّة؟
(القدس العربي)