ملفات وتقارير

لماذا لم تبدأ "الجنائية الدولية" التحقيق بجرائم الاحتلال إلا في الحرب الحالية؟

جاء الإعلان حول مساعي المحكمة إصدار مذكرات اعتقال لمسؤولين إسرائيليين بعد مرور أكثر من سبعة أشهر على اندلاع حرب الإبادة- منصة "إكس"
جاء إعلان المدعي العام للجنائية الدولية كريم خان، عن السعي لإصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومسؤولين آخرين، بتهم ارتكاب "جرائم حرب"، بعد سنوات طويلة من المطالبات بمحاسبة "إسرائيل" والبدء في تحقيق رسمي تجاه جرائمها المختلفة ضد الفلسطينيين.

وقررت الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية، في 5 شباط/ فبراير 2021، بأغلبية قضاتها، أن المحكمة لها اختصاص قضائي على إقليم دولة فلسطين، والذي يشمل الضفة الغربية، وقطاع غزة، وشرق القدس، باعتبارها دولة طرفا في ميثاق روما.

وجاء ذلك رغم أن فلسطين أودعت وثيقة انضمامها للمحكمة الجنائية الدولية لدى الأمين العام للأمم المتحدة، في الثاني من كانون الثاني/ يناير 2015، لتصبح رسميا منذ حينها طرفا في نظام روما الأساسي، وأصبح النظام ساري المفعول بالنسبة لدولة فلسطين اعتبارا من الأول من أبريل/ نيسان من العام ذاته.

مماطلة متوقعة؟ 
بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، طلب المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، من الدول الأطراف أن تحيل ملف أوكرانيا إلى مكتبه، من أجل التخلص من مشكلة الوقت الذي قد تستغرقه عملية الحصول على إذنٍ للتحقيق من قضاة، إلا أن قضية فلسطين والتحقيق في جرائم الاحتلال كانت عالقة منذ تأسيس كيان المحكمة في عام 2003.


وعمل خان سابقا على التحقيق في جرائم دولية ارتُكبت خلال حرب 2008 بين روسيا وجورجيا حول "أوسيتيا" الجنوبية، وتقدّم في سياق ذلك بطلب إلى قضاة المحكمة لإصدار مذكرات توقيفٍ في حق ثلاثة أشخاص موالين لروسيا، ومتهمين بارتكاب جرائم حرب في جورجيا. 

وقبلها سارع إلى تقديم طلب استعجالي لقضاة الغرفة التمهيدية لاستئناف تحقيق يفترض أن ينظر في الفظاعات التي ارتُكبت في أفغانستان جرّاء الغزو الأمريكي، إلا أنه ركز على الجرائم المنسوبة لحركة طالبان وتنظيم "داعش"، مؤكدا أنه "لن يمنح الجوانب الأخرى أولوية"، بحسب ما جاء في ورقة بحثية للباحثة عائشة البصري.

وجاء إعلان خان حول حرب غزة ومسعاه لإصدار مذكرات الاعتقال، التي تضم أيضا ثلاثة من قيادات حركة حماس، بعد مرور أكثر من سبعة أشهر على اندلاع حرب الإبادة ضد الفلسطينيين، رغم أن قراره في مسألة الغزو الروسي لأوكرانيا جاء في نفس شهر اندلاعه.

وتلزم مذكرة الاعتقال الصادرة عن محكمة العدل الدولية جميع الدول الـ123 الموقعة على اتفاقية روما، والتي تستمد المحكمة سلطتها منها، بالقبض على الشخص الذي صدرت بحقه مذكرة التوقيف، عند وصوله إلى أراضيها، ومن أبرزها: بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وهولندا وألمانيا وإيطاليا وكندا.

ما الذي أخر التحقيق؟
كانت مسألة الاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية على إقليم دولة فلسطين هي العائق الأساسي لبدء التحقيق بالجرائم المختلفة والحروب الإسرائيلية المتكررة على غزة أعوام 2008 و2012 و2014 و2021 و2023.

وتنقلت هذه المسألة بين المدعين العامين الثلاثة الذين تناوبوا على المنصب منذ تأسيس المحكمة، وكان أولهم الأرجنتيني لويس مورينو أوكامبو، الذي مدد فترة "الاستكشاف والتقييم والفحص" إلى فترات طويلة، وبعد ثلاث سنوات من الفحص الأولي، رَفَضَ فتح التحقيق في جرائم "إسرائيل"، لعدم تأكده مما إذا كانت فلسطين تعدّ دولة بموجب القانون الدولي، وذلك قبل شهرين فقط من انتهاء فترة ولايته عام 2012.


وعاد أوكامبو حاليا للتعقيب على جرائم الاحتلال وضرورة التحقيق فيها، قائلا عن الحرب الجارية حاليا: إن "عمليات القتل التي يقترفها الجيش الإسرائيلي تجاه المدنيين في غزة كافية ليخضع للتحقيق من قبل المحكمة التي يقع مقرها في لاهاي بهولندا".

وقال أوكامبو، عبر حسابه الرسمي على منصة "إكس" (تويتر سابقا)، إن "قتل المدنيين في غزة يمكن أن تحقق فيه المحكمة الجنائية الدولية كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية".

وأضاف أن "إسرائيل" تخطط لقتل الآلاف بحجة إنهاء قادة حركة حماس، مشيرا إلى أن التاريخ يظهر أن القادة يتم استبدالهم بقادة جدد، وأنه لا ينبغي أن يكون رد إسرائيل على ما وصفها بجرائم حماس مذبحة في غزة.


وكانت فاتو بنسودا ثاني من يتولى منصب المدعي العام في المحكمة، واستغرق إصدار قرار الاختصاص خمس سنوات، حيث خلصت الدراسة التمهيدية الثانية في نهاية 2019، إلى أن جميع الشروط لفتح تحقيق مستوفية، إلا أن بنسودا طلبت حكما قضائيا استغرق أزيد من عام، ليؤكّد أن اختصاص المحكمة يشمل الأراضي التي تحتلها "إسرائيل" منذ 1967، لكنها أوضحت أن قرارها هذا قابل للمراجعة إذا ما جرت إثارته مجددا.

وقبل نهاية فترة عملها بثلاثة أشهر، أعلنت بنسودا عن فتح التحقيق، ثم جاء المدعي العام الحالي وثالث من تولى المنصب ليعود لنفس القضية حول "النقص في قدرات التحقيق، وإعادة النظر في الاختصاص وجسامة الجرائم، وصعوبة التحقيق على الأرض نظرا إلى عدم تعاون إسرائيل". رغم أن مثل هذه المصطلحات والحالات، لم تكن عائقا لفتح تحقيق بسرعة قياسية في شأن الغزو الروسي لأوكرانيا.

وفي لقاء لكريم خان مع قناة الجزيرة نشر في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، قال إن "مسألة فلسطين هي كباقي المسائل التي تنظر فيها المحكمة، لا تختلف عن أوغندا وساحل العاج أو مالي"، وعاد مرة أخرى لطرح بحث مسألة اختصاص المحكمة.



وتضمن اللقاء بشأن سير التحقيق المتعلق بفلسطين، قول خان إن مكتبه "سينظر في الاختصاص وجسامة الجرائم والأدلة، للتأكد من أن بإمكانه أن يمارس عمله على نحو ناجع".

ويروج خان في محاضراته ومناظراته، إلى أن "المساءلة تحول دون تكرار ارتكاب الجرائم الدولية، وأن المحكمة الجنائية الدولية قامت بالأساس لمنع الإفلات من العقاب، وحتى لا تظل هذه التصريحات مجرّد شعارات زائفة، تنبغي محاسبته على كل تصريحاته والاحتجاج على صمته إزاء جرائم إسرائيل، وعدم منحه التحقيق الأولوية ذاتها التي يخصّ بها جرائم الروس في أوكرانيا، بحسب ما جاء في مقال للباحثة عائشة البصري.

يذكر أنه في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، أي بعد 40 يوما على العدوان على قطاع غزة، أعلن كريم خان تلقي مكتبه إحالة جديدة بشأن الحرب في غزة، من قبل جنوب أفريقيا وبنغلاديش وبوليفيا وجزر القمر وجيبوتي، مؤكدا أنه "يجري حاليا تحقيقا في الوضع في دولة فلسطين".


وأعلن مكتب المدعي العام في كانون الثاني/ يناير  من العام الجاري عن تقديم كل من تشيلي والمكسيك إحالة أيضا للمدعي العام في ما يتعلق بالوضع في فلسطين والحرب بقطاع غزة.

وتواصل "إسرائيل" الحرب رغم العدد الهائل من الضحايا المدنيين، ورغم اعتزام المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال دولية بحق رئيس وزرائها ووزير حربها؛ لمسؤوليتهما عن "جرائم حرب" و"جرائم ضد الإنسانية".

كما أنها تتجاهل قرارا من مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار فورا، وأوامر من محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير فورية لمنع وقوع أعمال "إبادة جماعية"، وتحسين الوضع الإنساني في غزة.