ما يقرب من ثمانين يوماً، وما زال الضباب يُخيّم على المشهد، فلا مصّاصو الدماء يكتفون، ولا الشعب
الفلسطيني يُبدي أيّ إشارةٍ إلى الضعف أو الانكسار.
في الضفّة كما في غزّة والقدس، يواجه الشعب الفلسطيني حرب إبادة، تستهدف وجوده بعد أن استهدفت حقوقه السياسية وحتى الإنسانية.
في غزّة حيث يركّز "التحالف الدولي" بقيادة الولايات المتحدة وكتيبته المتقدمة في المنطقة حرب إبادته على قطاع غزّة، يبحث عن انتصارٍ على الإنسانية، وقيمها، ليؤكّد استمرار سيطرة نظام دولي ظالم في طريقه إلى الانهيار.
"الحلف الدولي" ذاته كرّس كل إمكانياته العسكرية والاقتصادية، دفاعاً عن نظامه العالمي، لتحقيق الانتصار في أوكرانيا، ولم يحصد سوى الفشل.
هذه هي أميركا رأس الشرّ في العالم لا تتوقّف عن شنّ الحروب على الشعوب المستضعفة لنهب خيراتها، وتحويلها إلى عبيد، تسقط في فيتنام وكمبوديا، وتسقط في العراق وفي أفغانستان، ولكنّها لا تتوقّف.
من ألقى القنبلة الذرّية على هيروشيما وناغازاكي، خلال الحرب العالمية الثانية ويقتل مئات الآلاف، لا يتورّع عن تكرار جريمته في غزّة الصغيرة، المنهكة والمحاصرة، ألقت العصابة، من أسلحة الدمار الأميركية ما يزيد على ما تعرّضت له هيروشيما وناغازاكي.
اليابانيون استسلموا بعد حربٍ طويلة مرهقة، وبسبب أطماعٍ هتلرية جنونية أسّست لتلك الهزيمة، لكن الشعب الفلسطيني لن يسلّم ولن يستسلم.
يُسجّل الشعب الفلسطيني أسطورة تاريخية بصموده وقتاله، وتحمُّله، ستحرم "التحالف الدولي" الغاشم، حتى من أن يجمل هزيمته حتى لو استطالت الحرب وحصدت المزيد من الأرواح.
نحو ثمانين يوماً من الحرب، ونحو ثمانين ألفاً من الشهداء والجرحى، يستعيد الشعب الفلسطيني صورة
الصمود التي سطّرها في لبنان العام 1982، ويستعيد نشيد "اشهد يا عالم علينا وعَ بيروت" ولكنهم سيركعون أمام صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة.
منذ بداية العام، والشعب الفلسطيني يتعرّض لحربٍ ضروس، دفع خلالها في كلّ المناطق نحو ألف شهيدٍ وقتيل، واكتظّت السجون الإسرائيلية بالمعتقلين والأسرى، الذين سِيموا ويُسامون العذاب.
اشتغلت آلة الحرب والدمار العنصرية الفاشية في دولة الاحتلال على حسم الصراع لكنّها فشلت وتفشل اليوم بالرغم من أنّ الشعب الفلسطيني وحده يقف في الميدان، مع نفرٍ قليل لكنّه كبير بفعله من المقاومين العرب.
تصرخ مؤسّسات الأمم المتحدة، الحقوقية والإنسانية، كلّ الوقت وترفع صوتها عالياً، لحماية الإنسانية في غزّة، ويجتمع مجلس الأمن مراراً، لكنه يفشل في اتخاذ قرار لأنّه يقع تحت هيمنة الولايات المتحدة، أهل غزّة لا يريدون هدنة أو تهدئة، هم يريدون وقف حرب الإبادة، ومُصِرُّون على ذلك، ومُصمِّمُون على متابعة القتال حتى يضطرّ العدوّ إلى التوقّف.
لا ترى الإدارة الأميركية سبباً لوقف الحرب، وهي القادرة على ذلك، ولأنّها من يقودها، وتكتفي بالمطالبة بزيادة الإمدادات الإنسانية، التي لم تظهر في محيط الاحتياجات الهائلة.
هل يعرف العالم أنّ معظم المساعدات هي من عبوات المياه، والأكفان، وطعوم "كورونا"، وفي آخر الأيّام وصلت شاحنات مُحمّلة بالحطب؟
المساعدات التي يتحدّثون عنها، لا تظهر في الأسواق ولا في تحسين حياة الناس، لا في شمال القطاع، ولا في وسطه وجنوبه.
لا مجال للتحامل على العرب والمسلمين، الذين اجتمعوا في قمّةٍ واحدة، في الحادي عشر من تشرين الثاني، بعد أكثر من شهر على اندلاع الحرب، تجاهلوا قراراتهم التي تحدّثت عن كسرٍ فوري للحصار، وعادوا إلى طبيعتهم التي فقدت الهوية والأصالة والانتماء.
لدى العرب والمسلمين، من أوراق القوة ما يمكّنهم من فرض وقف الحرب، دون استخدام أسلحتهم وجيوشهم، التي يصرفون عليها تريليونات الدولارات.
لقد أثبت العرب أنّهم "مستعربون" ولمن لا يعرف منهم معنى ذلك، فليسألوا أهل المعرفة.
لا نعرف أين أساس الخطأ، هل هو عند الفلسطينيين الذي ظلّوا متمسّكين بالهويّة العربية، أم عند العرب الذين تخلّوا عن هويّتهم، والأمر، أيضاً، ينسحب على من يُسمَّون المسلمين.
لست محكوماً بحالة عصبيّة، أو بتأثير المأساة التي يُعانيها الشعب الفلسطيني، لكن من يراجع الدور العربي والدور الإسلامي منذ حرب العام 1948 حتى الآن، وباستثناء محطّات محدودة، فإنّ هذه المراجعة ستفيد بأنّ الفلسطينيين كانوا وحدهم لا ينتظرون إلّا كثير الكلام، وقليل الفعل.
منذ الأيّام الأولى للحرب، استدار العالم كلّه نحو فلسطين وقضيّتها، بعد أن تخلّت نسبياً الولايات المتحدة وحلفاؤها، عن أوكرانيا، التي تقع ضحيّة للسياسات "الغربية"، وبالرغم من المكانة والدور المختلف نوعياً لإسرائيل، فإنّ العالم، أيضاً، سيُرغَم على التخلّي عنها يوماً ما.
فشلت إسرائيل في تحقيق وظيفتها، واستنزفت مئات مليارات الدولارات من جيوب دافعي الضرائب في الدول التي أنشأتها وترعاها، وها هي تقاتل فقط من أجل إنعاشها، وإطالة عمرها ولو لبضع سنين ليست كثيرة، أمّا عن وظيفتها فهذه قد أخذت في الانهيار.
لو كانت هناك قيادة تتمتّع ببعض الحكمة في إسرائيل لأوقفت الحرب واختصرت الطريق، من خلال إعطاء الشعب الفلسطيني بعضاً من حقوقه السياسية، مقارنة بحقوقه التاريخية.
لقد نصحهم جدعون ليفي، وآري شبيط مراراً قبل الحرب وأثناءها، بأنّ بقاء إسرائيل مرهون بالتنازل للشعب الفلسطيني الذي لا مثيل له على وجه الأرض، حقوقه السياسية، لكنهم لا يرعوون.
لم يبقَ لإسرائيل من دوافع لاستمرار حرب الإبادة الفاشلة، سوى الدوافع الشخصية، لمن يديرونها، ذلك أنّ استمرارها هو الملاذ الأخير والمتبقّي لهم، لأنّهم يعرفون المصير الذي ينتظرهم في اليوم التالي، لوقف الحرب.
الفلسطينيون الذين يسطّرون اليوم ملحمة الصمود والبقاء، والانتصار، يعرفون أنّهم يدفعون ثمناً كبيراً، لكنهم باقون على أرضهم، ولكن عدوّهم يدفع ثمناً كبيراً من عمر الدولة وعلى حساب المشروع الصهيوني.
ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني من خسائر وآلام واضح لكلّ العالم ولكن ما تتعرّض له إسرائيل من خسائر أكثر فداحة، تحجبه وسائل الإعلام الإسرائيلية والحليفة لها.
ستسطع الشمس قريباً، وسيظهر أنّ إسرائيل دفعت أثماناً باهظة، بشرية واقتصادية وسياسية ونفسية، وأنّ سمعتها في العالم أصبحت في الحضيض، ولا يمكن ترميمها.
لقد قالها بنيامين نتنياهو منذ البداية وردّدها مراراً، لتبرير مواصلة الحرب أمام جمهوره بأنّ هذه الحرب هي الأخيرة لإسرائيل، بمعنى إزالة التهديد من غزّة والضفّة ولبنان.
وسيدرك أسياد الحرب الأميركيون أنّهم ألحقوا بصنيعتهم أضراراً بالغة واستراتيجية حين سمحوا بإطالة أمد الحرب.
(الأيام الفلسطينية)