خلص مقال هام لكاتبين كبيرين، أحدهما كان مستشارا سابقاً في مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، إلى أن "إسرائيل خسرت الحرب في غزة"، وقالوا إن تل أبيب لم تحقق أياً من أهدافها السياسية بعد أكثر من شهرين على الحرب الدموية العنيفة التي تشنها على القطاع.
وتحت عنوان (إسرائيل تخسر هذه الحرب) كتب كل من طوني كارون ودانيال ليفي، مقالاً نشره موقع "ذا نيشن"، وخلصوا فيه إلى أنه رغم الدمار
الهائل الذي تسببت فيه قوات الاحتلال في غزة إلا أنها لم تحقق أياً من أهدافها السياسية.
والكاتب دانيال ليفي كان عضواً في الوفد الإسرائيلي المفاوض الذي توصل إلى اتفاق طابا مع الفلسطينيين عندما كان إيهود باراك رئيساً للوزراء في إسرائيل، كما أن ليفي كان عضواً في مفاوضات أوسلو الثانية عندما كان إسحق رابين ر ئيساً للوزراء في دولة الاحتلال.
ويُعتبر ليفي من أبرز وأشهر الكتاب والمحللين السياسيين في إسرائيل، أما طوني كارون فهو صحفي أمريكي يقيم في نيويورك وتعود أصوله إلى جنوب أفريقيا واشتهر بكونه أحد الناشطين ضد نظام الفصل العنصري "الأبارتايد" في بلده والذي انتهى بعد نضال طويل خاضه أنصار الحرية في جنوب أفريقيا.
وأشار المقال الذي ترجمته "عربي21" إلى التشابه بين هجوم 7 أكتوبر وهجوم شنه
الثوار الفيتناميون في عام 1968 وكان كفيلا بإحباط الأمريكيين وجعلهم يراجعون
مواقفهم من الحرب الفيتنامية، وذلك بالرغم من الخسائر الباهظة التي تلقاها الثوار
الفيتناميون.
وفي ما يلي النص الكامل للمقال كما ترجمته "عربي21":
إسرائيل تخسر هذه الحرب
بقلم: طوني كارون ودانيال ليفي
(ذا نيشن)
قد يبدو من الحماقة القول إن مجموعة من المسلحين غير النظاميين
لا يتجاوز تعدادهم البضعة آلاف، محاصرين ولا يملكون سبيلاً للحصول على الأسلحة المتقدمة،
غدت كفؤاً لواحد من أقوى الجيوش في العالم، يحظى بدعم وتسليح من قبل الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإنه يحذر عدد متزايد من المحللين الاستراتيجيين في مؤسسات الدولة من أن إسرائيل
قد تخسر هذه الحرب التي تشنها على الفلسطينيين على الرغم من العنف الكارثي الذي تمارسه
منذ الهجوم الذي شنته حماس على إسرائيل في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. ومن خلال
استفزاز إسرائيل حتى تشن هجومها، لربما تكون حماس قد حققت كثيراً من غاياتها السياسية.
اظهار أخبار متعلقة
يبدو أن إسرائيل وحماس كلاهما يعيدان تحديد شروطهما للمنافسة
السياسية، ليس إلى الوضع الذي كان قائماً ما قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وإنما
إلى ذلك الذي كان قائماً ما قبل عام 1948. ليس واضحاً ما الذي سيأتي من بعد، ولكن لن
تكون هناك عودة إلى ما كانت عليه الأمور من قبل.
لقد حيد الهجوم المباغت المرافق العسكرية الإسرائيلية، وفتح
بوابات أضخم سجن مفتوح في العالم على مصاريعها، ومهد السبيل أمام حالة من الهيجان المريع،
والتي أفضت إلى مقتل ما يقرب من 1200 إسرائيلي. لقد ذكرت الصدمة الناجمة عن اختراق
حماس للخطوط الإسرائيلية المحيطة بقطاع غزة الكثيرين بهجوم تيت (هجوم شنه الثوار الفيتناميون
اكتسح فيه المهاجمون حوالي 100 موقع ومركز قيادة للقوات الأمريكية وكبدوها خسائر كبيرة).
ليس حرفياً، فهناك اختلافات شاسعة بين حرب أمريكية استكشافية في أرض نائية وحرب إسرائيل
للدفاع عن احتلال في الديار، يشنها جيش مواطنين يدفعهم إحساس بالخطر الوجودي. ولكن
بدلاً من ذلك، تكمن الفائدة من القياس في المنطق السياسي الذي يرسم معالم الهجوم المتمرد.
في عام 1968، خسر الثوار الفيتناميون المعركة وضحوا بالكثير
من البنى التحتية السياسية والعسكرية التي كانوا قد شيدوها على مدى سنين من العمل الدؤوب.
ومع ذلك، فقد كان هجوم تيت لحظة فارقة في إلحاقهم الهزيمة بالولايات المتحدة – وإن كان
ذلك قد تحقق مقابل دفع ثمن باهظ من حياة الفيتناميين. من خلال القيام بشكل متزامن في
يوم واحد بشن هجمات دراماتيكية، شديدة الإثارة، على أكثر من مائة هدف في مختلف أنحاء
البلاد، بدد الثوار الفيتناميون رغم أسلحتهم الخفيفة سراب النجاح الذي كان يمنّى به
الجمهور الأمريكي من قبل إدارة الرئيس جونسون. كان ذلك الهجوم مؤشراً فهم منه الأمريكيون أن الحرب التي طلب منهم التضحية بعشرات الآلاف من أبنائهم لخوضها غير قابلة للكسب.
تأسس قياس القيادات الفيتنامية لأثر أفعالهم العسكرية من
خلال ما يتمخض عنها من آثار سياسية بدلاً من القياسات العسكرية التقليدية، مثل عدد
الرجال وكميات المواد التي يتم فقدها، أو الأراضي التي يتم الاستحواذ عليها. ومن هنا
أتت حسرة هنري كيسنجر في عام 1969 حين قال: "لقد خضنا حرباً عسكرية بينما خاض
خصومنا حرباً سياسية. سعينا من أجل الاستنزاف المادي، بينما كان هدف خصومنا الإرهاق
النفسي. وفي تلك الأثناء غفلنا عن مسلمة أساسية من مسلمات حرب العصابات، والتي تقول
إن الفدائيين يكسبون إذا لم يخسروا، بينما الجيوش التقليدية تخسر إذا لم تكسب".
هذا المنطق هو الذي دفع شخصاً مثل جون ألترمان، من مركز الدراسات
الاستراتيجية والدولية في واشنطن العاصمة، والذي لا يعرف عنه أنه حمائمي، إلى أن يرى أن
إسرائيل قد تجازف بخسارة الحرب مع حماس:
مفهوم حماس للانتصار العسكري... يتعلق بالمجمل بالدفع باتجاه
تحقيق نتائج سياسية بعيدة المدى. لا ترى حماس إنجاز النصر في عام أو في خمسة أعوام،
وإنما من خلال الاشتباك لعقود من النضال، وذلك النضال هو ما سوف يزيد من التضامن مع
فلسطين بينما يزيد من عزلة إسرائيل. في هذا السيناريو، تحشد حماس السكان المحاصرين
في غزة من حولها مستثمرة ما يشعرون به من غضب، وفي نفس الوقت تساعد على انهيار حكومة
السلطة الفلسطينية من خلال ضمان رؤية الفلسطينيين لها باعتبارها مجرد تابع ذليل خانع
للسلطة العسكرية الإسرائيلية. في هذه الأثناء، تبتعد الدول العربية بقوة عن التطبيع،
ويتحالف جنوب الكوكب بقوة مع القضية الفلسطينية، وتنفر أوروبا بسبب تجاوزات الجيش الإسرائيلي،
وينطلق جدل أمريكي حول إسرائيل، محطماً بذلك الدعم الذي ما لبثت تحظى به إسرائيل من
الحزبين هنا منذ مطلع السبعينيات.
كتب ألترمان يقول إن حماس تسعى "لاستخدام قوة إسرائيل
الأعظم بكثير من أجل إلحاق الهزيمة بإسرائيل. فقوة البلد تتيح لها قتل المدنيين الفلسطينيين،
وتدمير البنى التحتية الفلسطينية، وتحدي النداءات العالمية من أجل ضبط النفس. كل هذه
الأمور تخدم غايات حماس من الحرب".
مثل هذه التحذيرات تجاهلتها إدارة بايدن كما تجاهلها الزعماء
الغربيون، والذين يعود تبنيهم غير المشروط لحرب إسرائيل إلى التوهم بأن إسرائيل مجرد
بلد غربي آخر كان يسعى سلمياً لإدارة شؤونه قبل أن يتعرض من غير استفزاز منه لهجوم
السابع من أكتوبر، وذلك تخيل مريح لمن يفضلون تجنب الاعتراف بالواقع الذي طالما كانوا
ضالعين في إيجاده.
دعك من "الإخفاق الاستخباراتي". لقد كان إخفاق
إسرائيل في توقع هجوم السابع من أكتوبر إخفاقاً سياسياً في فهم عواقب نظام عنيف من
القهر، صنفته منظمات حقوق الإنسان الرائدة في العالم باعتباره نظام فصل عنصري (أبارتايد).
قبل عشرين عاماً، حذر رئيس الكنيست السابق أبراهام بورغ من
حتمية رد الفعل العنيف. وكتب حينها في صحيفة "ذي إنترناشيونال هيرالد تريبيون"
يقول: "تبين أن النضال المستمر منذ ألفي عام للحفاظ على الوجود اليهودي وصل في
نهاية المطاف إلى دولة من المستوطنات، تديرها طغمة لاأخلاقية من الفاسدين الخارجين
عن القانون، والذين يصمون آذانهم عن سماع ما يقوله مواطنوهم وما يقوله أعداؤهم. إن
الدولة التي تنقصها العدالة لا يمكن لها أن تدوم".
"حتى لو طأطأ العرب رؤوسهم وابتلعوا عارهم وغضبهم إلى
الأبد، فإنها لن تفلح. إن الكيان الذي يقوم على القسوة البشرية لا مفر من أن يتقوض
وينهار على ذاته... وإسرائيل التي لم تعد تأبه بأطفال الفلسطينيين لا ينبغي لها أن
تتفاجأ بهم وقد جاءوها وقد تعمدوا بالكراهية ليفجروا أنفسهم في المراكز التي يلوذ بها
الإسرائيليون هرباً من الواقع".
وحذر بورغ من أن "بإمكان إسرائيل أن تقتل ألف رجل فلسطيني
في اليوم، ولكنها لن تحل شيئاً، وذلك لأن أعمال إسرائيل العنيفة سوف تكون مصدراً لتجديد
مخزون صفوفهم".
إلا أن تحذيرات بورغ تم تجاهلها، وذلك على الرغم من أنها
أثبتت وجاهتها مرات عديدة. نفس ذلك المنطق يمكن رؤيته يتجلى حالياً فيما يمارس من تدمير
داخل قطاع غزة. إن العنف البنيوي الساحق الذي تتوقع إسرائيل من الفلسطينيين أن يعانوه
بصمت يعني أن أمن إسرائيل كان دوماً سراباً.
لقد أكدت الأسابيع التي مرت منذ السابع من أكتوبر أنه لا
يمكن بحال العودة إلى الوضع الذي كان قائماً من قبل. ولربما كان هذا هو هدف حماس من
شن هجماتها الفتاكة. من الجدير بالذكر أنه حتى قبل هذا، كان العديد من القيادات الإسرائيلية
يطالبون علانية باستكمال النكبة من خلال التطهير العرقي ضد الفلسطينيين. والآن، غدت
مثل تلك الأصوات أعلى وأضخم.
أثناء التهدئة الإنسانية التي تم الاتفاق عليها من قبل الطرفين
في أواخر شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، أطلقت حماس سراح بعض الرهائن مقابل فلسطينيين كانوا
محتجزين في السجون الإسرائيلية ومقابل زيادة في توريد المساعدات الإنسانية إلى داخل
غزة. وعندما استأنفت إسرائيل هجومها العسكري وعادت حماس إلى إطلاق الصواريخ، كان واضحاً
أن حماس لم تُهزم عسكرياً. لكن يمكن الاستنتاج من الذبح الجماعي والتدمير الهائل الذي
تقوم به إسرائيل في غزة أن لديها النية في تحويل المنطقة إلى مكان تستحيل فيه الحياة
لما يقرب من 2.2 مليون فلسطيني يعيشون هناك الآن، وكذلك الدفع باتجاه طردهم من خلال
هندسة نكبة إنسانية بوسائل عسكرية. وبالفعل، حسب تقديرات الجيش الإسرائيلي ذاته، تمكنت
إسرائيل حتى الآن من القضاء على أقل من 15 بالمائة من قوة حماس القتالية. وهذا في حملة
قتل فيها حتى الآن أكثر من 21 ألف فلسطيني، معظمهم من المدنيين، بما في ذلك ما لا يقل عن
8600 طفل.