العنوان الأبرز لتمظهر الأزمة الليبية خلال
الأسبوعين الماضيين هو "النزاع على تقاسم عوائد
النفط"، فقد كان جدول
أعمال مجلس النواب مؤخرا مركزا على التعاطي مع "تحكم حكومة طرابلس في
الإيرادات والنفقات" وكيفية كسر هذا الاحتكار. وظهر حفتر في لقاء متلفز وهو
يهدد بالتحرك (دون أن يحدد طبيعة التحرك) إذا لم تشكل لجنة عليا لمراقبة عملية
إدارة الإيرادات والنفقات العامة والتوزيع العادل لثروة النفط بين المناطق الثلاث،
الغرب والشرق والجنوب.
بالمقابل، فقد شهدت العاصمة اجتماعات على
أعلى مستوى ضمن المجلس الرئاسي والحكومة والمصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط،
للتعاطي مع التهم القديمة المتجددة حول الفساد والمحاباة وتركز القرار المالي في
العاصمة وحرمان مناطق شاسعة من البلاد من عوائد النفط.
موضوع توزيع الدخل والإدارة الرشيدة لعوائد
النفط وإنفاقها بشكل يحقق العدالة الاقتصادية والاجتماعية قديم وحاضر في كل حقبة
من حقب التاريخ المعاصر لليبيا، وظل من أهم دوافع التغيير السياسي الذي عرفته
البلد خلال الست عقود الماضية، وبقي عصيا على المعالجة إما لأسباب سياسية وأيديولوجية
كما في فترة حكم القذافي، أو بسبب الصراع وغياب الرؤية الجامعة بعد ثورة فبراير،
بل صار منذ هجوم حفتر على طرابلس العام 2019م المحرك الرئيسي للصراع.
جبهة طبرق ـ الرجمة حازت القرار التشريعي
وحيدت السلطة القضائية وامتلكت القوة العسكرية لكنها فشلت في الاستحواذ على السلطة
المالية ممثلة في الحكومة والمصرف المركزي، ولأن الخيار العسكري بات شبه مستحيل
لاستكمال مقومات القوة والسلطة، صار الضغط السياسي هو الأداة وكذا اللجوء إلى سلاح
النفط، وقد نجحت الجبهة الشرقية في لفت انتباه المنتظم الدولي لمطالبها المتعلقة
بعوائد النفط.
التحدي الرئيسي هو أن الضغوط والتهديدات وردود الفعل عليها تقع في مرحلة شديدة التأزيم وفي غياب توافق على كليات رئيسية هي شكل الدولة وطبيعة نظام الحكم وآلية الوصول إلى المرحلة القادمة وتفاصيل أخرى تجعل من الحالة معقدة وبالتالي فإن الحلول المطروحة للتماهي مع الضغوط ستظل قاصرة وتعمق من الأزمة وتطيل من الصراع.
كنت قد أدرت ندوة علمية سبقت هذا الجدل،
خاصة تهديدات حفتر، وكان هناك اتفاق بين المتحدثين الرئيسيين والمعقبين أن هناك
محركا سياسيا لملف تقاسم عوائد النفط غير أن الحرمان الاقتصادي والاجتماعي يشكل
عاملا أساسيا للخلاف حول موارد الدولة وإيراداتها النفطية، وأن الساسة يوظفون هذا
الخلل الاقتصادي والاجتماعي لتمرير أجنداتهم.
التحدي الرئيسي هو أن الضغوط والتهديدات
وردود الفعل عليها تقع في مرحلة شديدة التأزيم وفي غياب توافق على كليات رئيسية هي
شكل الدولة وطبيعة نظام الحكم وآلية الوصول إلى المرحلة القادمة وتفاصيل أخرى تجعل
من الحالة معقدة وبالتالي فإن الحلول المطروحة للتماهي مع الضغوط ستظل قاصرة وتعمق
من الأزمة وتطيل من الصراع.
نجحت الجبهة الغربية، بشكل مؤقت، في
الالتفاف على الضغوط المتعلقة بالمركزية والتحكم في القرار المالي في العاصمة، من
خلال تشكيل لجنة بقرار من المجلس الرئاسي لمتابعة الحكومة والمصرف المركزي في
تعاملها مع الإيردادات النفطية وأوجه صرفها، ولا اعتقد أن حفتر قادر الآن على
تنفيذ تهديده بالتحرك نهاية الشهر القادم بعد قرار المجلس الرئاسي، وإن فعل فسيورط
نفسه أكثر. بالمقابل، فإن اللجنة لن تكون قادرة على احتواء حالة السيولة في المشهد
الليبي والهدر والفساد في إدارة المال العام حتى في المدى القصير، فالحلول
الترقيعية لن تغني عن الانتقال والتحول الصحيح والمأسسة وما يصحبها من روافد
أساسية أهمها الدستور وتحقيق مبدأ سيادة القانون وإعادة ترتيب المنتظم العسكري
والأمني ضمن أطر مؤسسية منضبطة ودور فاعل وواعي للمجتمع المدني بمختلف مكوناته
وأدواته.
ستمضي المهلة التي تحدث عنها حفتر على
الأغلب دون تكدير في صفو تدفق النفط وإيراداته وإدارتها من قبل حكومة الوحدة
الوطنية، لكن المشهد متجه إلى تغيير ليس عبر الانتخابات، فهي ليست راجحة خلال
العام الجاري أو حتى الربع الأول من العام القادم، بل ربما عبر توافق على تغيير في
شكل السلطة التنفيذية ونفوذها وصلاحياتها.