كنت أسمع عن
الجلطة التي أصابت عددا من المحيطين بي،
لكني لم أتوقع أن أكون أحد ضحاياها. فأسبابها غير متوفرة في حالتي الصحية، من زيادة
عالية في نسبة السكر في الجسم، أو ضغط، أو كولسترول عال، أو إفراط في السمنة، ولا
تدخين، ولا خمر، ولست من سريعي الغضب..
استمر وضعي الصحي مستقرا إلى أن توجهتُ إلى الدوحة
للمشاركة في ورشة علمية من تنظيم جامعة نورث وسترن، يشرف عليها الصديق خالد حروب، وتناولت
تقييم تجارب الحركات الإسلامية في السلطة بعد الربيع العربي.
بعد تقديم ورقتي، والاستماع إلى مداخلات عدد من
الزميلات والزملاء، صعدت إلى الغرفة طلبا للراحة قبل التوجه إلى العشاء مع بقية
المشاركين. عند مغادرة المصعد أحسست بأن رجليّ لم تعودا تتحملاني، والحمد لله أني
وجدت مقعدا جلست عليه، ولم أتوجه مباشرة إلى غرفتي للنوم. بعد لحظات فتح المصعد
ليخرج منه الصديق خليل العناني، الباحث المصري المقيم في أمريكا، الذي سارع بإشعار
البقية بما حصل لي. ولم تمض سوى لحظات حتى كانت سيارة الإسعاف تنقلني إلى مستشفى
حمد تحت إشراف الأخ محمد أبو رمان وزير الثقافة السابق في الأردن. هناك أعلموني
بالجلطة التي باغتتني فجأة وأنا بعيد عن أهلي وبلدي، ومعها عشت تجربة فريدة من
نوعها.
يكون المصاب كمن فقد الذاكرة ثم أخذ يستعيد أجزاء منها تدريجيا، ومع كل صباح يتحسس أعضاء جسده المصابة، وكلما استعاد طرف منها حيويته السابقة شعر بكونه يخطو نحو تجاوز مرحلة الطفولة الجديدة التي فُرضت عليه، وتغمره سعادة عميقة بفضل استعادته جزءا من حريته واستقلاليته، ويشاركه أفراد أسرته وأحباؤه سعادتَه ويتقبلونه بفرح يذكّره بفرح سابق عندما كان صغيرا
وجدت نفسي من الغد نائما على فراش، والطاقم الطبي يحيط
بي من كل جانب. أعي ما حولي، لكن نصفي الأيمن نائم لا أتحكم في أي قطعة منه.
أصابني الخوف والقلق، وهاجمتني الهواجس من كل جهة، وشعرت بكوني انتقلت إلى مرحلة
جديدة من حياتي، سأكون خلالها عبئا على عائلتي، بعيدا عن الأضواء والناس ومعظم من
عرفتُ خلال مسيرتي الإعلامية والفكرية، لكن سرعان ما بدأت تلك الهواجس تتبدد
تدريجيا.. "إن الإنسان خُلق هلوعا إذا مسّه الشر جزوعا".
أول الغيث قطرة، حيث زارني كل من شارك في الندوة،
وتبعهم الصديق محمد كريشان، وعدد وافر من الزملاء العاملين بقناة الجزيرة وصحيفة
العربي الجديد والتلفزيون العربي. وشرفني بالزيارة الدكتور عزمي بشارة، والسفير
القطري في تونس سعد بن ناصر الحميدي، ورئيس الحكومة السابق هشام المشيشي، وشخصيات أخرى
عديدة. ثم لحق بي فيما بعد زوجتي وأبنائي، فحضور الأسرة جزء هام من العلاج، فكان
لتلك الزيارات الأثر النفسي الكبير، ولم أشعر بعدها بالغربة.
نُقلتُ بعد الأسبوع الأول من الإصابة إلى مركز قطر
لإعادة التأهيل، وهو مؤسسة صحية ضخمة وحديثة، بقيت بها أكثر من شهرين، وفيها بدأت
رحلة العودة من طفولتي المبكرة إلى وضعي شبه العادي. فالجلطات أنواع؛ هناك من يُفقد
النطق، وهناك من يحصل له تشوه كامل في الوجه، وهناك من لم تعد له القدرة على
الحركة والوقوف والأكل بمفرده والكتابة، وغير ذلك من العمليات العادية والمعقدة
التي كان يقوم بها المصاب من قبل دون أن يدرك أهميتها في حياته. فالرياضي الذي كان
قادرا على رفع 140 كلغ، قد يجد نفسه عاجزا عن رفع ورقة تزن بضعة جرامات؛ يحصل ذلك في
لحظة عندما تنقطع الصلة بين خلية في المخ وبقية الأعضاء المكلفة بأداء تلك المهام.
هنا يتدخل الفريق الطبي الذي سيعمل على إصلاح الانقطاع
"الكهربائي"، وإعادة تعليمك الأساسيات من جديد، حتى تعرف كيف تأكل وتقوم
من فراشك وتغتسل وتمسك القلم، وتتعلم مخارج الحروف، وتخطو خطواتك الأولى. في هذه
المرحلة يكتشف المرء أن التكرار هو أساس "الممارسة تؤدي إلى الكمال"، كما قال الموسيقار العظيم بيتهوفن. لهذا
ما عليك إلا الصبر والتأني وتنفيذ التعليمات والأوامر حتى لا تضيع فرصة الشفاء،
لأن مهلة العلاج في حالة الإصابة بالجلطة تتراوح بين شهر وسنة، ومن تجاوز الفترة
الذهبية التي تمتد إلى ستة اشهر كما يصفها الأطباء، يكون قد حكم على نفسه بإصابة
دائمة.
في هذه التجربة المعقدة والمثيرة تزداد علاقة الفرد بربه قوة، وهو يكتشف الإعجاز الكبير في خلقه "وفي أنفسكم أفلا تبصرون". ينتكس من طفولة أولى إلى طفولة ثانية، ثم عودة كاملة أو نسبية إلى استقرار مؤقت حتى تحين الساعة
يكون المصاب كمن فقد الذاكرة ثم أخذ يستعيد أجزاء منها
تدريجيا، ومع كل صباح يتحسس أعضاء جسده المصابة، وكلما استعاد طرف منها حيويته السابقة
شعر بكونه يخطو نحو تجاوز مرحلة الطفولة الجديدة التي فُرضت عليه، وتغمره سعادة
عميقة بفضل استعادته جزءا من حريته واستقلاليته، ويشاركه أفراد أسرته وأحباؤه
سعادتَه ويتقبلونه بفرح يذكّره بفرح سابق عندما كان صغيرا، تضمّه أمه وأبوه عندما
ينطق بكلمة جديدة، أو يمشي خطواته الأولى.
في هذه التجربة المعقدة والمثيرة تزداد علاقة الفرد
بربه قوة، وهو يكتشف الإعجاز الكبير في خلقه "وفي أنفسكم أفلا تبصرون".
ينتكس من طفولة أولى إلى طفولة ثانية، ثم عودة كاملة أو نسبية إلى استقرار مؤقت
حتى تحين الساعة. الحقيقة الثابتة هي تلك التي وردت في الكتاب: "لقد خلقنا الإنسان
في كبد".