قضايا وآراء

ضياء رشوان.. "مكارثي" مصر الجديد

سبق أن أبدى رشوان إعجابه بالإخوان- جيتي
مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، أي منذ 73 عاما اجتاحت الولايات المتحدة الأمريكية فوبيا الشيوعية (الخوف من انتشار الشيوعية في ظل الحرب الباردة التي كانت في ذروتها بين المعسكرين الشرقي والغربي)، وتصدر المشهد السيناتور جوزيف مكارثي رئيس إحدى اللجان في مجلس الشيوخ الذي أطلق دعوات لكشف وملاحقة الشيوعيين في الوظائف العامة، انتشرت تلك الدعوة كالنار في الهشيم، وبناء على معلومات مفبركة تم حبس وفصل عشرات الآلاف من الأمريكيين بتهمة الشيوعية، والتجسس، رغم أن الغالبية لم تكن كذلك، حتى أن رموزا ونجوما لامعة طالتها تلك الملاحقات؛ مثل مارتن لوثر كينغ وألبرت أينشتاين وآرثر ميللر وتشارلى تشابلن.

أفاق المجتمع الأمريكي تدريجيا من تلك الفوبيا، وأدرك زيف تلك الحملة، بفضل كتاب وأدباء شجعان واجهوا مكارثي وأنصاره، وفندوا أكاذيبهم، لتأتي النهاية العادلة لمكارثي نفسه بتقديمه إلى المحكمة بتهمة الفساد والتزوير، وقد أدانه الكونجرس، ومات نتيجة جرعات إدمان عالية قبل نهاية المحاكمة.

بدأ الجنرالات حكمهم بإطلاق حالة الفوبيا من الإخوان، وتحميلهم كل رذيلة، واغتيالهم معنويا ليتسنّى لهم الحكم بدون أي معارضة حقيقية. وكانت المحصلة لتلك الموجة الأولى من المكارثية هي مذابح المنصة والحرس الجمهوري ورابعة والنهضة ورمسيس والدقي والقائد إبراهيم وغيرها، وتصدر المشهد كتاب وأدباء داعمون لحملة إبادة الإخوان. لم يكن الأمر مقتصرا على الإخوان، بل كان الوصف يتسع لكل رافض للانقلاب حتى لو كان شيوعيا قحّ
هذه مقدمة ضرورية لفهم ما مرت ولا تزال تمر به مصر منذ انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 وحتى الآن، فقد بدأ الجنرالات حكمهم بإطلاق حالة الفوبيا من الإخوان، وتحميلهم كل رذيلة، واغتيالهم معنويا ليتسنّى لهم الحكم بدون أي معارضة حقيقية. وكانت المحصلة لتلك الموجة الأولى من المكارثية هي مذابح المنصة والحرس الجمهوري ورابعة والنهضة ورمسيس والدقي والقائد إبراهيم وغيرها، وتصدر المشهد كتاب وأدباء داعمون لحملة إبادة الإخوان. لم يكن الأمر مقتصرا على الإخوان، بل كان الوصف يتسع لكل رافض للانقلاب حتى لو كان شيوعيا قحّا.

وقدم الكاتب الصحفي عاصم حنفي مشروعا تصفويا للإخوان من خلال تشكيل مليشيات عسكرية سرية من رجال وزارة الداخلية، لاستهداف رموز الإخوان، والتعامل بطريقة رأس برأس، أي كلما قتل رأس من رؤوس النظام يتم على الفور تصفية رأس من رؤوس الإخوان عبر تلك المليشيات السرية، بعيدا عن الطرق القانونية، دون أن تتحمل الداخلية رسميا المسئولية. وقد أوضح حنفي في مقاله أنه اقتبس تلك الفكرة من نظام حكم الجنرال فرانكو في إسبانيا. وقد نفذت الشرطة الفكرة وتوسعت فيها بالفعل.

وقد تقدمتُ في حينه ببلاغ مكتوب لنقابة الصحفيين لمحاسبته بتهمة الحض على الكراهية والتحريض على التصفيات خارج نطاق القانون، وكان نقيب الصحفيين في ذلك الوقت هو ضياء رشوان، ولم يتحرك البلاغ قيد أنملة.

مناسبة ما سبق هي التصريحات التي أدلى بها ضياء رشوان، المنسق العام للحوار الوطني ورئيس الهيئة العامة للاستعلامات، ونقيب الصحفيين السابق، حول الموقف من الإخوان، لإحدى القنوات الفضائية وأعادت نشرها الصحف يوم الأربعاء (17 أيار/ مايو 2023) تحت عنوان ضياء رشوان: الإخوان يحاولون التسلل داخل المجتمع لكن الطلاق هذه المرة بائن.

وقبل الحديث عما وصفه بالطلاق البائن، دعونا نستعرض بعضا مما تضمنته التصريحات من مغالطات لا تصدر من شخص بسيط وليس من باحث متخصص في دراسة الإخوان، من ذلك مغالطته التاريخية الأولى بزعمه أن الإخوان اعتادوا على المحنة، وأن المحنة تستغرق نحو 10 سنوات، وأن أول محنة بدأت سنة 1944. والحقيقة أن الادعاء بتعرض الإخوان لمحنة كل عشر سنوات هي محاولة إلباس الكلام لباسا علميا زائفا، لأن ذلك لم يحدث بهذه الطريقة، فقد كان الإخوان في ذروة نشاطهم وتألقهم في منتصف الأربعينات، وكانت لهم مقرات رسمية في كل مكان في مصر، وكانت علاقتهم طبيعية إلى حد كبير مثل غالبية الأحزاب والجماعات بالملك والحكومة.

ثم كانت الفِرية الثانية بادعائه أن الصِدام في 2013 كان مع الشعب الذي خرج بالملايين لرفض وجودهم، والحقيقة أن صِدام الإخوان وكل الديمقراطيين الحقيقيين كان ولا يزال مع انقلاب عسكري غاشم، اغتصب إرادة المصريين الذين خرجوا بملايين حقيقية في عدة استحقاقات ديمقراطية؛ وقفوا خلالها بالساعات في طوابير تمتد لعدة كيلومترات. أما الملايين التي يزعم أنها خرجت في 30 حزيران/ يونيو فليسألهم أين هم الآن؟ وما موقفهم من النظام الذي دعموه ورقصوا له؟

ويلوم ضياء رشوان على الرئيس الراحل أنور السادات إخراج الإخوان من السجون، معتبرا ذلك أحد الأخطاء الكبرى، أي أنه كان يريد استمرار حبسهم حتى وفاتهم في السجون، ما يعني أنه مع حبس أصحاب الرأي والسياسيين. والغريب هنا أنه شخصيا كان معارضا للرئيس السادات، وكان عضوا بحزب التجمع اليساري، وكان من الممكن أن يكون رفيقا للإخوان في محبسهم.

المقياس الحقيقي لمدى شعبية أي نظام أو حزب أو جماعة هو الصندوق الانتخابي، فهل يقبل رشوان ونظامه الاحتكام إلى تلك الصناديق مع توفير ضمانات النزاهة الكاملة ليعرف مع من يقف الشعب؟ وإذا كان الإخوان قد أعلنوا توقفهم عن الصراع على السلطة فهل يقبل ضياء ونظامه اللجوء إلى استفتاء شعبي حقيقي على بقاء هذا النظام؟ بل لا نذهب بعيدا ولنكن عمليين بصورة أكبر، هل يقبل رشوان ونظامه إجراء انتخابات نزيهة، بإشراف دولي في 2024 رغم أن الإخوان لن يشاركوا فيها؟!
أما ثالثة الأثافي فهي ادعاء رشوان أن الطلاق بائن بين الإخوان والشعب هذه المرة على خلاف المرات السابقة، ولا أدري عن أي شعب يتحدث ضياء رشوان! هل يتحدث عن الشعب الذي وقف مع خيار الإخوان في التعديلات الدستورية في 19 آذار/ مارس ما منح ذلك الخيار 78 في المئة من الأصوات (بغض النظر عن تقييم تلك المعركة)؟ أم الشعب الذي وضع الإخوان في صدارة الانتخابات البرلمانية بغرفتيها؛ مجلسي الشعب والشورى بعد الثورة؟ أم الشعب الذي اختار مرشح الإخوان ليكون أول رئيس مدني لمصر بعد 60 عاما من الحكم العسكري؟..

بعيدا عن الكلام الفارغ، فإن المقياس الحقيقي لمدى شعبية أي نظام أو حزب أو جماعة هو الصندوق الانتخابي، فهل يقبل رشوان ونظامه الاحتكام إلى تلك الصناديق مع توفير ضمانات النزاهة الكاملة ليعرف مع من يقف الشعب؟ وإذا كان الإخوان قد أعلنوا توقفهم عن الصراع على السلطة فهل يقبل ضياء ونظامه اللجوء إلى استفتاء شعبي حقيقي على بقاء هذا النظام؟ بل لا نذهب بعيدا ولنكن عمليين بصورة أكبر، هل يقبل رشوان ونظامه إجراء انتخابات نزيهة، بإشراف دولي في 2024 رغم أن الإخوان لن يشاركوا فيها؟! لن ننتظر إجابة من رشوان أو غيره فالجميع يعرفون الإجابة.

علاقتي الشخصية بضياء رشوان سبقت توليه منصب نقيب الصحفيين، ثم تعمقت بعد ذلك، قبل أن تعصف بها عاصفة الانقلاب. لقد كان ضياء من أكثر المدافعين عن الإخوان، ولم يكن يرى هذه الخطايا التاريخية التي يتحدث عنها الآن، بل كان يواجه بقوة من يطرحها، وكان ينتدب نفسه للدفاع عن الإخوان في المناظرات والحوارات التلفزيونية، حتى أنه كتب عام 2005 عقب فوز الإخوان بـ88 مقعدا في البرلمان مقالا شهيرا بعنوان "كيف أنضم للإخوان المسلمين؟".

أعرف أن ضياء رشوان يجمع بين الشيوعية والناصرية فهو يصنف حينا بأنه شيوعي أو يساري، وأحد كوادر حزب التجمع اليساري سابقا، ويصنف حينا باعتباره ناصري، والحقيقة أنه تقلب بين المواقف السياسية بين اليسار والناصرية وحتى الحزب الوطني أيام مبارك، ولذلك فليس من المتوقع أنه كان يريد فعلا عضوية الإخوان، لكنه في ظل حالة انبهاره بأداء الإخوان الانتخابي وقدرتهم على حصد ذاك العدد من النواب رغم ما تعرضوا له من قمع وتزوير؛ فإنه طرح تساؤلات عن كيفية الانضمام للإخوان باعتبارهم الكيان السياسي الحقيقي المؤهل للعب دور سياسي كبير، والمؤهل أيضا لضم المزيد من الأعضاء في ذلك الحين.
الإخوان مكون أصيل من مكونات الشعب المصري، وأنهم منتشرون في مدن وقرى ونجوع مصر، بين العمال ورجال الأعمال، والمهنيين والفلاحين، والرجال والنساء والشباب، وليس من السهل على أي نظام مهما بلغت قوته محوهم. لقد حاولت النظم السابقة ذلك لكنها فشلت، واضطرت في أحيان كثيرة إلى التفاهم معهم أو غض الطرف عن أنشطتهم، وما يفعله ضياء رشوان اليوم هو استعادة لحالة المكارثية التي انتابت مصر عقب انقلاب 2013، وتخلص منها المجتمع تدريجيا مع انكشاف الحقائق أمامه

تغيرت علاقة ضياء رشوان بالإخوان مع تصاعد حالة الاستقطاب السياسي التي سبقت الانقلاب العسكري، وتصاعد العداء بعد الانقلاب، في ظل ترؤسه للهيئة العامة للاستعلامات، وموقع نقيب الصحفيين، ثم بلغ العداء ذروته مع توليه مهمة المنسق العام للحوار الوطني، الذي اقتصر على بعض القوى السياسية من معسكر 30 يونيو، والذي أصبح ضياء عرابا له، ومدافعا عن استبعاد هذا الحوار لممثلي أكثر من نصف الشعب المصري، ثم ها هو اليوم يدعي أن الطلاق بائن بين الإخوان والشعب، ومرة أخرى عن أي شعب يتحدث؟

يدرك ضياء رشوان في قرارة نفسه أن الإخوان مكون أصيل من مكونات الشعب المصري، وأنهم منتشرون في مدن وقرى ونجوع مصر، بين العمال ورجال الأعمال، والمهنيين والفلاحين، والرجال والنساء والشباب، وليس من السهل على أي نظام مهما بلغت قوته محوهم. لقد حاولت النظم السابقة ذلك لكنها فشلت، واضطرت في أحيان كثيرة إلى التفاهم معهم أو غض الطرف عن أنشطتهم، وما يفعله ضياء رشوان اليوم هو استعادة لحالة المكارثية التي انتابت مصر عقب انقلاب 2013، وتخلص منها المجتمع تدريجيا مع انكشاف الحقائق أمامه، لكن مكارثي مصر الجديد لن يجني أكثر مما جناه مكارثي أمريكا.. فيعتبر بمن سبقوه.

twitter.com/kotbelaraby