تقارير

"القرآن حمّال أوجه".. هل تشرع الأبواب لتأويلات حداثية صادمة؟

هل كل القرآن حمّال أوجه؟ علماء ومتخصصون يجيبون
في سياق الجدل الديني الذي لا يتوقف، والذي توسعت دوائره لتشمل مطالبات عديدة تدعو لتجديد الخطاب الديني برمته، يُكثر المتحاورون من إيراد مقولة (القرآن حمّال أوجه) لإضفاء شرعية الفهم والاستنباط على مختلف الفهوم الدينية، بوصفها فهما محتملا واردا في فهم النص القرآني، لا سيما في القراءات الحدّاثية للقرآن الكريم.

ووفقا لباحثين فإن عبارة "القرآن حمّال وجوه" لم ترد بهذا اللفظ في الكتب المسندة، "وإنما جاءت بلفظ آخر، فقد روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، ويحيى بن أبي أسيد، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه" أخرجه الدارقطني".

ونقل الباحث الشرعي السعودي عبد الله زقيل في مقال بحثي له عن الشيخ الألباني أنه حكم على الرواية السابقة بأنها ضعيفة جدا وأعلها بثلاث علل، أما الرواية عن يحيى بن أبي أسيد عن رسول الله صلى الله عليه: "إن القرآن ذلول ذو وجوه فاتقوا ذله وكثرة وجوهه" فذكرها ابن حزم في كتاب الإحكام في أصول الأحكام، وقال "مرسل لا تقوم به حجة"، فالحديث بهذين الطريقين لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

أما الموقوف على ابن عباس، تابع زقيل، "فأخرجه الخطيب البغدادي في (الفقيه والمتفقه) عن الأوزاعي قال: "خاصم نفر من أهل الأهواء علي بن أبي طالب، فقال له ابن عباس: يا أبا الحسن؛ إن القرآن ذلول حمول ذو وجوه، تقول ويقولون، خاصمهم بالسنة فإنهم لا يستطيعون أن يكذبوا على السنة"، وهو ضعيف في سنده يحيى بن عبد الله البابلتي قال عنه ابن حبان: يأتي عن الثقات بأشياء معضلات، يهم فيها فهو ساقط الاحتجاج فيما انفرد به..".



وفي سياق مناقشته للمقولة السابقة، في كتابه (كيف نتعامل مع القرآن العظيم)، تساءل الدكتور القرضاوي هل كل القرآن حمّال أوجه؟ ذاكرا أن "بعض الناس تمسكوا بالكلمة التي رويت عن الإمام علي كرم الله وجهه، حين وجه ابن عباس رضي الله عنهما لمحاجة الخوارج، فقال له: لا تجادلهم بالقرآن، فإنه حمال أوجه، وخذهم بالسنن" مشككا في صحة نسبتها إلى علي بن أبي طالب بقوله: "ولا أدري مدى صحة نسبة هذه الكلمة إلى علي، فقد بحثت عنها في مظان كثيرة فلم أجدها بهذه الصيغة، رغم اشتهارها، ولكن الشهرة ليست دليل الصحة".

وتابع: "اتخذ بعض الناس من كلمة أمير المؤمنين علي تكأة يعتمدون عليها في دعوى عريضة: أن القرآن كله يحتمل تفسيرات مختلفة، وأفهاما متباينة، بحيث يمكن أن يحتج به على الشيء وضده!! ولو صح ما ادّعوه على القرآن الكريم، لم يكن هناك معنى لإجماع الأمة بكل طوائفها على أن القرآن هو المصدر الأول للإسلام عقيدة وشريعة.. ولم يكن هناك معنى لوصف الله تعالى القرآن بأنه (نور وكتاب مبين)، (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)..".

وتساءل القرضاوي: "فكيف يكون الكتاب المبين، التبيان، الهدى، البينة، الفرقان، الرحمة، غامضا أو قابلا لأي تفسير يُشرّق صاحبه أو يغرَّب؟ وقد قال تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)، وقد أجمع المسلمون على أن الرد إلى الله يعني: الرد إلى كتابه، وأن الرد إلى الرسول بعد وفاته يعني الرد إلى سنته. فإذا كان الكتاب حمال أوجه -–كما يقال -–فكيف أمر الله برد المتنازعين إليه؟".

وأردف: "وكيف يعقل أن يرد التنازع إلى حكم لا يرفع التنازع، بل هو نفسه متنازع فيه؟!.. قد يكون هذا صحيحا بالنظر إلى الآيات (المتشابهات) التي تحتمل أكثر من فهم، وأحسب أن هذه هي التي قصدها على رضي الله بكلمته إلى ابن عباس إن صحت عنه".

من جهته رأى الباحث العُماني في الفكر الإسلامي، أحمد بن علي الحارثي أن "دلالة حمّال تشير إلى أوجه استيعابه لبلاغة العرب وأنه لا يمكن التعامل مع بطريقة واحدة وهو حمل كل ألفاظه على الظاهر، وبهذا الاعتبار فإنه بالفعل يؤسس لاختلاف تأويلات الناس، وجواز تعدد القراءات".


                              أحمد بن علي الحارثي، باحث عُماني في الفكر الإسلامي

وردا على سؤال "عربي21" عن ما إذا كانت تلك العبارة تثير مخاوف حقيقية من استخدامها في سياق تمرير قراءات حداثية تكون صادمة للمنظومة الأصولية، قال: "بالتأكيد هناك مخاوف لأنه قد يتطفل المتعامل بالعلوم الإنسانية، ويقتحم المجال فيتعامل مع النص القرآني بعيدا عن اعتباره نصا إلهيا مقدسا، فتنتج عن ذلك شطحات بعيدة عن روح الاختلاف، ومقاصد الدين".

وفي ذات الإطار قال الداعية الأردني، الباحث في العلوم الشرعية، محمد أبو هاشم سوالمة: "وجدت بعد متابعاتي وبحثي في هذا الموضوع أن استخدام هذه المقولة غالبا ما يكون ذريعة للتفسيرات الخاطئة والمضللة، ويلجأ إليها من يعجز عن فهم القرآن فهما صحيحا ببلاغته العالية، ويريد أن يطوع الآيات الكريمة ويخضعها لبعض الأفهام المعاصرة، والمستجدات الحديثة".


                      محمد أبو هاشم سوالمة، داعية أردني وباحث في العلوم الشرعية

وتابع: "من يستخدم تلك العبارة فإنه بتفسيراته المستحدثة، والمخالفة لما قرره أئمة العلم في تفاسيرهم المعتبرة، يقدم آراء ينسبها للقرآن يستفيد منها العلماني والليبرالي ودعاة النسوية في توجهاتهم الفكرية المعروفة، بما يخدم تلك التوجهات ويضفي عليها الشرعية، ويجعلها مقبولة بإلباسها ثوب ديني، وتفسير قرآني حسب أفهامهم".

وأوضح لـ"عربي21" أن مقولة (القرآن حمّال أوجه) "يمكن حملها على وجه صحيح إذا كان المراد منها حمل آيات القرآن على ما تتحمله لغة العرب ببلاغتها ودلالالتها المعروفة عند أهلها، وليس بإخضاع آيات القرآن الكريم إلى منهجيات تأويلية حداثية تُخرج النص القرآني عن دلالته التي تحتملها لغة العرب، ما ينتج عنه تأويلات فاسدة وباطلة ومضللة".

من جهته رفض الدكتور أحمد الرقب، الأستاذ المشارك في التفسير وعلوم القرآن هذه المقولة، لافتا إلى أن "تفسير القرآن ينبغي أن يكون منضبطا بمنهجية أصولية واستدلالية صحيحة، يراعى فيها الضابط اللغوي، والضابط التنزيلي، والضابط السياقي، ومن ثم يجتهد المفسر في الوصول إلى الوجه الأقرب للحق، فالتوفيق كل التوفيق في ذلك".


                              أحمد الرقب، أستاذ مشارك في التفسير وعلوم القرآن

وأردف: "أما فتح المجال للقراءات الحداثية للقرآن التي لا تلتزم بذلك، وربما تستند إلى منهجيات ألسنية وتأويلية من خارج المجال التداولي الإسلامي، ما يفضي إلى نتائج ومآلات صادمة للمنظومة الأصولية فهو ما يجعل علماء التفسير يتخوفون من تلك القراءات بتوجهاتها التاريخانية والتأويلية والتفكيكية، والتي يغلب على كثير منها التعامل مع النص القرآني كأي نص آخر نازعة عنه قداسته الدينية".

ولفت الأكاديمي الأردني الرقب في حواره مع "عربي21" إلى أن "المفسر المتعمق في تدبر القرآن والمتبحر في تفسيره قد يوفق لإصابة فهم دقيق قد يخفى على غيره؛ ذاكرا ما ورد في ذلك عن علي بن أبي طالب حينما سئل: هل عندكم كتاب (غير القرآن)؟ قال: لا إلا كتاب الله، أو فهما يعطيه الله رجلا في القرآن..". 

وتابع: "ومثاله ذلك الفهم الدقيق الذي وفق له عبد الله بن عباس حينما سأله عمر رضي الله عن قوله تعالى (إذا جاء نصر الله والفتح..) ليظهر فضله لأشياخ قريش الذين وجدوا في أنفسهم لأنه أدخله معهم مع صغر سنه، فبعد أن سألهم عمر: ما تقولون في قول الله تعالى (إذا جاء نصر الله والفتح..)، قال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، فقال: آكذاك يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ هو أجل رسول الله أعلمه له.. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول".

وشدد الرقب على ضرورة "التفريق بين إطلاق النظر في فضاء الآيات ودلالاتها من الوجوه المنسجمة مع السياق، والمتوافقه مع دلالاتها اللغوية، والتي يكمل بعضها بعضا، وبين النظر في النص ليشقق منه أقاويل تكون في غالبها نافرة عن سياق النص، وتصطدم في الوقت نفسه مع نصوص قرآنية صريحة في رد تلك الأقاويل وإبطالها".

وختم كلامه بإيراد مثال لتلك التأويلات والأقاويل الفاسدة، بما قاله بعضهم من وجود آدميين قبل آدم عليه السلام، استنادا إلى ما فهموه من قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ..}، لافتا إلى أن هذا الفهم غير صحيح لأنه يتعارض مع صريح قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِين}، فآدم أبو البشرية، وبه كانت بداية خلق البشر".