تدهور عراقي آخر. يشير
مؤشر الديمقراطية السنوي لوحدة المعلومات الاقتصادية، إلى مستوى منخفض آخر. حيث تراجع
العراق ثمانية مراكز إلى المرتبة 124 من بين 167 دولة، وتم تصنيف النظام العراقي بأنه نظام «استبدادي».
وهذه النتيجة هي الأدنى في العراق منذ إنشاء المؤشر في عام 2006، ويمثل الانخفاض الخامس على التوالي منذ عام 2017 حسب «تقرير العراق التجاري». يقدم مؤشر الديمقراطية لمحة عن حالة الديمقراطية في جميع أنحاء العالم بناءً على خمس فئات: العملية الانتخابية والتعددية، وعمل الحكومة، والمشاركة السياسية، والثقافة السياسية، والحريات المدنية. بناءً على نتائج مجموعة من المؤشرات ضمن هذه الفئات، يتم تصنيف كل دولة كواحد من أربعة أنواع من الأنظمة: «ديمقراطية كاملة» «ديمقراطية ناقصة» «نظام هجين» أو « نظام استبدادي».
يضاف مؤشر هذا التدهور إلى قائمة طويلة من مؤشرات الانحدار إلى العالم السفلي الذي يعيشه العراق منذ عشرين عاما إثر غزوه وإحتلاله. وتكمن المأساة في أن معظم ساسة النظام، حاليا، هم أنفسهم الذين دخلوا مع الاحتلال بذرائع تم تصنيعها لأغراض التضليل وتسويق الإمبريالية بلباس زاه اسمه الديمقراطية. وهو تضليل لغوي- عملي مقصود، كما كتب عنه الروائي الإنكليزي جورج أورويل في «السياسة واللغة الإنكليزية» قائلا « يدّعي المدافعون عن كل نوع من أنواع الأنظمة أنها ديمقراطية، ويخشون أن يضطروا إلى التوقف عن استخدام المفردة إذا تم ربطها بأي معنى. غالبًا ما يُستخدم هذا النوع من المفردات بطريقة مخادعة عن قصد».
لا يمكن أن تكون كلمات أورويل أكثر صدقًا مما هي عليه، في عراق اليوم، حيث لا تزال النية الواعية للخداع هي سياسة الولايات المتحدة وبريطانيا، في صمتهما إزاء ما يجري ضد الشعب، من قبل النظام الذي يواصلون رعاية نظامه الطائفي الفاسد بعد 20 عامًا من غزوه لأنه وفر لهما مليارات الدولارات من خلال عقود إعادة الإعمار بعد أن تكفلا بتدمير البنية التحتية. وبهدف خلق شعب مطيع، حاول الاحتلال محو التراث الثقافي والذاكرة، وإحراق المكتبات، ونهب المتاحف والمواقع القديمة، واستهداف الأكاديميين والعلماء، وإثارة العنف الطائفي، بينما أصبحت انتهاكات حقوق الإنسان ممارسة يومية لا تستثني أحدا. وصار من المألوف لدى الساسة العراقيين إعادة مضغ وتدوير المفردات ذات المعاني النبيلة للتمويه على إرهاب النظام: التحرير وليس الاحتلال. حكومة ديمقراطية وليس نظاما طائفيا. الشفافية بدلا من الفساد المهيمن للرشاوى والسرقات والابتزاز. العنف الطائفي بدلاً من الحرب القذرة بالإرهاب المصطنع والعمليات السوداء. بينما يترجم الواقع المُعاش للمفردات معانيها الحقيقي: أن الأمن يعني الخروج على القانون وسيادة القانون تعني حكم الميليشيات الطائفية، خاصة تلك القوات الخاصة التي دربتها الولايات المتحدة والمرتبطة بعدد من أحزاب النظام الاستبدادي أو السلطوي، حسب مؤشر الديمقراطية.
وإذا كانت التقارير الحقوقية الدولية والمحلية ومؤشرات الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان كما حق الحياة والحركة والدين والمذهب وحرية التعبير والصحافة، تؤكد جميعا، أما إنتهاكها بشكل فعلي سافر أو إرتباطها بمنظومة الفساد الهائلة، فإن دولتي الاحتلال الرئيسيتين مستمرتان بعزف نغمة «الدمقرطة» و «محاربة الإرهاب» لمساندة النظام على الرغم من ممارساته الوحشية ضد كل من يحاول الاحتجاج على الوضع السياسي الميليشياوي، الاقتصادي الفاسد، وإهانة الكرامة بكل الأشكال الممكنة.
ففي 7 آذار/ مارس، مثلا، قام وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن بزيارة مفاجئة إلى العراق لم تكن معلنة مسبقا. سبب الزيارة، حسب تعبيره، إنه جاء لـ «إعادة التأكيد على الشراكة الاستراتيجية» بين البلدين. وأن القوات الأمريكية جاهزة للبقاء في العراق حسب رغبة الحكومة العراقية. وللإجابة على تساؤل حول السبب الذي سيدفع النظام لطلب جلب قوات عسكرية إضافية إلى البلد، قال أوستن «نركز على المهمة الموكلة لنا لهزيمة تنظيم داعش، ولكن أي هجمات تستهدف قواتنا يمكن أن تقوض هذه المهمة». وأضاف أن « ويسرنا أن ندعم شركاءنا العراقيين، ولكن يجب أن نعمل بشكل آمن لاستمرار هذه الحرب ضد التنظيم المتشدد».
السبب المعلن، إذن، هو إستمرار « الحرب ضد الإرهاب» وأن يحمي النظام القوات الأمريكية من أي هجمة ضده. وهي ذات السياسة المٌربحة عسكريا وسياسيا للهيمنة الأقتصادية، التي حاولت الإدارة الأمريكية طمرها تحت أكذوبة «الديمقراطية». وكأن العالم نسي التصريح المماثل، لوزير الخارجية الأمريكية كولن باول في الأمم المتحدة، قبل شهر من الغزو في عام 2003، حين قال بمرأى العالم كله: «تورط العراق في الإرهاب، وخطورة التهديد الذي تشكله أسلحة الدمار الشامل العراقية على العالم. إنها مخاطر حقيقية وقائمة على المنطقة والعالم، وهو إرتباط يتسم بالشر». مضيفا بأن هناك علاقة وثيقة « بين العراق وشبكة القاعدة الإرهابية» وأن « الصلة بين العراق والإرهاب قديمة «. في نهاية خطاب باول، أو الكوميديا التراجيدية التي قدمها بأداء يحسد عليه، أصبح الغزو العسكري الأمريكي للعراق «ضرورة» حتمية لإنقاذ العالم والعراقيين. وهو ذات الترهيب الذي يوجه « الشراكة الاستراتيجية» مع أمريكا، حاليا، مع إختلاف بسيط. لم يعد التنظيم الإرهابي هو القاعدة بل داعش، بعد أن فُضحت أكذوبة العلاقة مع القاعدة.
أما الموقف البريطاني لدعم النظام، فقد أوضحه اللورد طارق أحمد وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط، خلال زيارته العراق، أخيرا ( 28 شباط/ فبراير) قائلا « يسعدني أن أعود إلى العراق وإقليم كردستان لأرى كيف تستمر العلاقة بين بلدينا في الازدهار». الملاحظ أن اللورد خاطب إقليم كردستان وكأنه ليس جزءا من العراق، وأن العلاقة بين بريطانيا والعراق في إزدهار. وإنهما يعملان معا « لمواجهة التحديات المشتركة مثل تغير المناخ وحقوق الإنسان والأمن». مشيرا إلى « ثراء التنوع الديني والعرقي في العراق، وضرورة حماية حرية الدين أو المعتقد وأهمية الحوار بين الأديان».
هذه التصريحات، ذات المظهر الحضاري، مفيدة لديمومة المصالح الاقتصادية والعسكرية، لأمريكا وبريطانيا على حساب مكانة المواطن العراقي، فالمكاسب المادية الناتجة لها لايٌستهان بها. ولن تتخلى عنها. لتقع مسؤولية التحرر منها على عاتق الحركة الوطنية في البلد، إذا تمكنت من جمع شتاتها، بالتعاون مع الحركات العالمية المناهضة للحروب والعنصرية. حينئذ فقط يمكن العمل على بناء علاقات شراكة حقيقة مبنية على المساواة مع كل الدول الإقليمية والدولية ووقف التدهور إلى ما لانهاية.
القدس العربي