ما أجمل أن تكون كل أيام السنة مفعمة بمشاعر الأخوة والاحترام والحب، فيتبادل الناس التبريكات من قلوب متصافية ورغبات صادقة بتمتين أواصر الأخوّة. ما أجمل أن يكون السلام شعارا للجميع، فتجمّد الخلافات وتتوقف الحروب وتتلاشى الضغائن.
وعلى المستوى الفردي، ما أسعد الإنسان لو استطاع أن يعيد تنظيم حياته لتكون متسقة مع تجربته
الرمضانية، فيستعيد سيطرته على النفس ويقمع شهواتها، وينقّي قلبه من الضغينة، ويسعى لممارسة الخير، خصوصا على الصعيد الاجتماعي. هذه بعض المشاعر التي تختلج في النفس مع بداية الشهر الفضيل. فقد تبادل الزعماء السياسيون التبريكات، وتبادل المسلمون التهاني بأساليب شتى: بالمصافحة عند اللقاء والرسائل الإلكترونية، حتى لكأن الأمة أصبحت كتلة واحدة من البشر يسودها الحب والوئام. هذا هو شهر الله الذي أطل على هذا الكوكب المبتلى بأصناف المتاعب. وفي أجوائه الروحانية النقيّة، يتصاغر الشيطان الذي يكيد للإنسان تنفيذا لتهديده أمام الله: «قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراط المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين». وبالصوم الصادق يُهزم هذا الشيطان، الأمر الذي يؤكد أن الإنسان قادر على تفعيل إرادته ويهزم الشيطان الذي يمثل الشر والسوء والخلاف والانحراف. هذا الشيطان الذي يمثل قوة ماردة للشر، يمكن هزيمته بالصوم ضمن معركة إرادات يمكن أن تكون حاسمة.
هذه المشاعر الإيجابية تهيمن على ذوي الثروة والمتخمين، كما تراود الجياع والحفاة. القصور التي تضج بأصناف البهرجة والمتع الدنيوية، تبدو متساوية من حيث نشوة أصحابها بما لديهم وهم يستقبلون الشهر الفضيل، مع الأكواخ التي يقطنها المعدمون، ومع المخيّمات التي يعاني ساكنوها في
سوريا ولبنان وفلسطين المتاعب، فلا يجد من فيها ما يسد حاجاتهم الإنسانية. فما أكثر الأطفال في تلك المخيمات على الحدود السورية ـ التركية الذين يسيرون حفاة على طبقات الثلج، يبحثون عن لقمة دافئة تخفف عنهم عناء البرد. فلا شك أن أبناء الأمة كافة، استقبلوا الشهر الفضيل بالمشاعر المذكورة، ولكن أوضاع الكثيرين منهم سرعان ما تفرض نفسها على واقعهم فتستبدل البسمة بالشفاه المتشققة والبطون الخاوية والأقدام الحافية. صورتان متوازيتان يستطيع الصائم أن يستحضرهما إذا ما أطلق العنان لجانبه الإيماني والإنساني، للتفكير بعيدا عن المظاهر الخادعة التي تبرزها المجاملات.
شهر رمضان المبارك حل على الأمة، وبعض قطاعاتها يسمع أصوات الانفجارات المدوية في مناطق شتى من الأراضي السورية. من الفاعل؟
الطيران الأمريكي الذي نفّذ عدة اعتداءات داخل سوريا وعلى حدودها مع
العراق، جاء ذلك بعد ساعات فحسب من رسالة الرئيس الأمريكي جو بايدن مباركا للمسلمين بحلول شهر رمضان المبارك. وقال بايدن في تغريدة: «نتمنى أنا وزوجتي للمسلمين في الولايات المتحدة وحول العالم شهرا مباركا ومزدهرا». وقال في بيان لاحق: تؤكد الولايات المتحدة أيضا دعم الجاليات المسلمة التي تعاني من الضيق والدمار. سنستمر في الوقوف بجانب شعبي تركيا وسوريا اللذين خسرا الكثيرين من أحبتهم في الزلزال الأرض الأخير، وكذلك مع شعب باكستان الذي يعيد بناء حياته بعد ما تعرض له من فيضانات في الصيف الماضي». فكيف يمكن الجمع بين هذين الموقفين؟
في اليوم الأول من شهر رمضان، تستهدف الأراضي السورية بالقصف الجوي الذي طال مناطق عديدة، بينما يتظاهر الرئيس الأمريكي بدعم شعب سوريا. فحتى لو كان هناك مبرر، وفق الرواية الأمريكية بأن القصف جاء ردا على استهداف القوات الأمريكية في سوريا، ألم يكن بالإمكان تأجيل الضربة إلى ما بعد شهر رمضان؛ احتراما لمشاعر المسلمين؟ فما قيمة التصريحات السياسية إن لم تكن مشفوعة بسياسات ومواقف منسجمة مع مضامينها؟ ولا يستغرب حدوث قصف إسرائيلي لقطاع غزة أو سوريا في ظل حالة الاستضعاف التي تعاني منها أمة المسلمين. الصوم مشروع إلهي لتقويتها وشد أزرها، وهذا ممكن إذا توفرت الإرادة وتعمّق الإيمان بإمكان حدوثه.
وبرغم وجود محاولات إيجابية لتبريد البؤر الساخنة وتخفيف حدة التوتر بعد عام من الاضطرابات والمحن، إلا أن الواقع المرّ يفرض نفسه بقوة؛ ففي كل من تركيا وسوريا تسود حالة من الحزن العميق في إثر الزلزال الكبير الذي ضرب البلدين؛ فقد فقد أكثر من 52 ألف مواطن من البلدين حياتهم، وجرح أكثر من 125 ألفا، ونزح أكثر من مليونين ونصف من منازلهم، وتدمر أكثر من 200 ألف مبنى. من المؤكد أن مواطني البلدين يسعون لممارسة الحياة بشكل طبيعي واستقبال الشهر الفضيل بما يليق، ولكن المحنة كانت كبيرة. كما أن شهر رمضان هذا العام يدفع ثمن الحرب الأوكرانية. فقد حدثت ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار السلع حول العالم، وكان ارتفاع أسعار المواد الغذائية هائلا في أغلب البلدان العربية. كما أن بعض العملات تضرر نتيجة ذلك، فالجنيه المصري فقد نصف قيمته مقابل الدولار الأمريكي، وعمدت الحكومة لخفض قيمته مرة أخرى في شهر كانون الثاني/يناير الماضي، فكانت النتيجة ارتفاعا حادا في أسعار السلع المستوردة، خصوصا الحبوب.
ونشرت وكالة بلومبرغ تقريرا بعنوان: «مؤشر الكشري للأسعار». والكشري طبق مصري شعبي يخلو من اللحوم ويتكون من الأرز المسلوق والعدس والمعكرونة والبصل المقلي وصلصة الطماطم، مع إضافة الخل والثوم والكمون. وقال التقرير أن «متوسط سعر مكونات هذه الوجبة قد قفز بنسبة 58.9٪ في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أي حوالي ثلاثة أضعاف معدل التضخم السنوي البالغ 21.3٪». ويعاني أغلب البلدان العربية أوضاعا اقتصادية صعبة؛ فالأردن يواجه معدلا مرتفعا للبطالة يصل إلى الربع تقريبا. ومع تصاعد الدَّين العام ليصل 43 مليار دولار، أصبحت أعباء الدولة تزداد تراكما وتنعكس على مستوى معيشة المواطنين. أما فلسطين، فلها نصيبها من المعاناة، فسكان غزة يعتمدون على المساعدات الخارجية بسبب الفقر وارتفاع معدلات البطالة، والحصار المفروض من قوات الاحتلال الإسرائيلية منذ 16 عاما، وبرغم محاولة أهلها إظهار الفرحة بقدوم الشهر، فإن ضغوط الحياة تفرض نفسها على مستويات معيشتهم. ولليمن قصته مع المجاعة التي طالما حذرت من حتمية وقوعها منظمتا الصحة العالمية واليونيسيف، في ظل الحرب التي دخلت قبل يومين عامها الثامن. لا يقل المغرب العربي توترا. فقبل أسبوع فحسب، قال الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، لقناة الجزيرة؛ إن علاقات بلاده مع المغرب وصلت إلى نقطة اللاعودة. هذا مؤشر خطير لا يمكن أن يغيب عن ذهن المواطن وهو يستقبل شهر رمضان المبارك. فما لم يتخذ البلدان خطوات لتخفيف التوتر بينهما، فليس مستبعدا أن يصل الوضع إلى حالة المواجهة العسكرية. وكانت الجزائر قد قطعت العلاقات مع المغرب في العام 2021 لأسباب شتى، من بينها النزاع بشأن الصحراء الغربية. فالجزائر تدعم جبهة «بوليساريو» التي تطالب باستقلال الصحراء الغربية، بينما يعتبرها المغرب جزءا لا يتجزأ من أرضه، ويقترح منحها حكما ذاتيا تحت سيادته حلا وحيدا للنزاع، في حين تطالب الجبهة المدعومة من الجزائر بإجراء استفتاء لتقرير المصير بإشراف الأمم المتحدة، تقرر عند توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين المملكة والجبهة عام 1991.
وماذا عن دول مجلس التعاون الخليجي؟ تتميز هذه الدول بأنها دول ريعية، فهي تعتمد بشكل شبه كامل على العائدات النفطية. وحيث إن اسعار النفط ثابتة عند 75 دولارا للبرميل تقريبا، تعتبر اقتصادات هذه الدول قادرة على استيعاب ارتفاع الأسعار العالمية للسلع الأساسية. وتسعى هذه الدول للسيطرة على أوضاع بلدانها الداخلية بمنع تفاقم الأزمات الاقتصادية، من خلال دعم السلع الأساسية وتوفير مساعدات لذوي الدخل المحدود. ولكن استبشار أهلها بحلول الشهر الفضيل تنغصه معاناة الآلاف من أبنائه في سجون بعض دوله بسبب آرائهم ومواقفهم السياسية، ومن بينهم علماء دين كبار ومفكرون وإعلاميون.
ولعل الظاهرة المقلقة في المنطقة بشكل عام السعي لتهميش الدين في الحياة العامة. فبدلا من تعميق قيمه في المجتمع، خصوصا في المواسم الكبرى مثل شهر رمضان، ثمة توجه لإضعاف ذلك بأساليب شتى، من بينها استهداف الانتماء الديني وتهميش دور الدين في حياة أتباعه. ومن مظاهر هذا الاستهداف، تحويل المناسبات العبادية كشهر رمضان الى فعاليات اجتماعية وترفيهية، الأمر الذي يضعف ارتباط الصائم بمقتضيات صومه وأدوارها الاجتماعية والروحية. فهناك سباق بين القنوات التلفزيونية لعرض البرامج والمسلسلات البعيدة عن روح الصوم والعبادة، وهذه ظاهرة مقلقة للعلماء والدعاة والحريصين على مصلحة الأمة والحفاظ على هويتها المرتبطة بالإسلام.
القدس العربي