يقف
أبو مازن في قلوب الكثير من الإسلاميين الذين عاصروا ثمانينيات القرن المنصرم: أيقونة
سحرية تختلط فيها الذكريات بالآمال وبالأحلام المستحيلة. فقد حفر بصوته وألحانه البسيطة
وجدانهم وشكل منه شعلة لاهبة ما لبثت أن أصبحت فانوسا تشتعل فتيلته كلما أوشكوا على
الذكرى.
يرحل
بهم صوته إلى مناطق أشبه بالفردوس المفقود المستحيل. فردوس لا ماء فيه ولا شجر غير
رقراق صوته وإشعاعات ما يطوي فيه من المسافات بين الخيال والواقع والتي كانت يوما ما
متقاربة في صدورهم حد الجنون.
لو قدر
لأبي مازن أن يستمر في مشروعه بعد عام 1972 لكان بحق من كبار ملحني
النشيد الإسلامي.
لكنه آثر الصمت وهذا ما لا يتقنه الكثيرون. ربط مشروعه الموسيقي بالفكرة وكان هذا خياره
الشخصي لكنه حرم محبيه من دفقات إبداع ربما كانت ستفعل الكثير بهم.
كانت
الفكرة ولا شيء سواها هي الباعث الحقيقي وراء تسعة أشرطة سجلها بإمكانيات تقنية بسيطة
ومتواضعة لكنها كانت بالغة الأثر في قلوب من هم في ساخن تجربة، ظلت تحكم وثاقها على
رقابهم.
هل يمكن
أن نعتبر تجربته تأريخا فنيا لتلك المرحلة؟ ربما لكنه تخلى عن كل ذلك مفضلا الانسحاب
إلى عمله ومعاشه في مصر دون أن يُعرف بنفسه. وبذلك اكتملت معالم الأسطورة حتى ظهر فجأة
عندما أجرت معه مقابلة إحدى المجلات فتهافتت عليه قلوب المحبين من كل صوب ملاحقة ذكرياتها
وأشواقها البائدة.
أجد
أن أكثر ما يميز أناشيده هي سحبة الحزن التي تظلل بنداها كل ما ينشد وكأنها ناي يلاحق
كل فرح ممكن الظهور.
وأنا
استمع إلى سلسة تلك الأناشيد كنت أحس أن أبا مازن لا يركن إلى النمطية التي تميز الأناشيد
الإسلامية فهو يطلق العنان لخياله اللحني وتعبيراته ونظراته الخاصة للكلمات المغناة.
ليجعلنا نخوض معه هذه المغامرات تاركا لنا مساحات جليلة من التأمل التي تطرد السأم
حيث لا آلات موسيقية ولا مؤثرات سوى صدى الصوت والكورال وربما وشوشات رداءة التسجيل
والتي أصبحت تطرب عشاقه، وهذا ما لن يفهمه إلا الذين رضعوا صوته منذ صباهم.
إن هذا
الخروج عن النمطية وخاصة في حال اقتناص الملحن لجملة موسيقية مبهرة لا يقدر عليه سوى
الفنانين الكبار الواثقين من قدرتهم ومن موهبتهم. ومن هو أبو مازن آنذاك، إنه فتى في
السادسة عشر من عمره. يسجل ألحانه في قبو مسجد في دمشق مع مجموعة من رفاقه على آلة
تسجيل بها تقنية اصطناع صدى الصوت فقط.
وللدلالة
على ذلك لنسمع نشيده (أشرق الفجر)
وغير
ذلك الكثير مما لا مجال لذكره.
لا شك
أن الحاضنة السياسية لأناشيد أبي مازن كانت جماعة الإخوان المسلمين، فقد كان معظم الشعراء
الذين يغني لهم مرتبطين تنظيميا أو فكريا إلى تلك الجماعة. ربما لم يكن عضوا منظما
في الجماعة كما عُرض في برنامج الجزيرة الوثائقية (رائد النشيد الحركي) لكنه استطاع
أن يسخر أفكاره اللحنية لخدمة أفكار الجماعة في تلك الحقبة.
ربما
يرى البعض أن قمة نجاحات أبي مازن في مطولته (نم يا صغيري). وهي من كلمات الشاعر المصري
هاشم الرفاعي. مطولة ذات لحن شجي يغلب عليها طابع الانكسار. وقد يكون مبحث هذه الأفضلية
بوعي أو بدون وعي، هي ما تمثله من سردية المظلومية التي غزت الخطاب الإخواني آنذاك
بعد انحسار مدهم سنة 82 وتكسر طموحاتهم أمام بطش النظام البعثي من جهة. وأمام الانقسامات
العديدة التي صدعت تجمعهم، إثر ذلك من جهة أخرى. فكانت سلاحا أخيرا يواجه انحسار مدهم
الذي أخذ بالتسارع.
أما
ذروة ما أبدع أبو مازن، برأيي، فهي في أواخر تجربته ذات التسعة أشرطة. أنشودة (ملحمة
الدعوة) التي صب فيها عصارة أحاسيسه مغامرا بتلحين شعر تفعيلة التي تعتمد (أبياته)
على عدد غير منتظم من التفاعيل، تبعا للتدفق الشعوري لدى الشاعر. فأثبت مرة أخرى قدرته
على اقتحام أفاق جديدة غير محروثة من قبل. ومقتربا وبجداره من المسرح الغنائي الذي
كان يصبو إليه كبار الملحنين ومنهم بليغ حمدي. وذلك كي يعطوا لأرواحهم مساحات تعبيرية
مختلفة تلامس واقع الحياة عبر المواضيع التي يطرحها هذا النوع من الفن.
انتهى
أبو مازن من تسجيل هذه الأشرطة التسعة على أرجح الأقوال بحدود عام 1972. لحن وغنى ما
يزيد عن مائة وسبعين أنشودة تنوعت أغراضها بين الهموم الإسلامية الدعوية العامة وبين
الابتهالات والمناجاة الخاصة لله ومدح الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وبين بعض الأناشيد
التوعوية للأطفال.
وماذا
بعد ذلك...! توارى أبو مازن عن الأنظار وانتشرت الشائعات عن مصيره فمن قائل إن النظام
السوري آنذاك قد اعتقله، أو قطع لسانه أو قتله. وهكذا اكتملت عناصر الأسطورة التي تتلقفها
الشعوب وتغذيها الأيدلوجيا. لكننا سنعرف فيما بعد أنه غادر سوريا سنة 1987 دون أي ضجة
مفضلا الاهتمام بما يهتم به الناس العاديون من أمور المعاش. فافتتح مصنعا صغيرا يعتاش
منه هو وأسرته.
حتى
جاء العام 2002 وظهر على العلن بمقابلة في جريدة آفاق عربية. وعرف على نطاق واسع.
في عام
2006 قام بعض محبيه بإقناعه بإصدار شريطه العاشر. لكن هذا الشريط فشل ولم يستطع إيصال
أي من تلك الأحاسيس التي كان يبحث عنها جمهوره الذي بلغ الخمسينات من العمر. أراد صناع
العمل المزج بين منجزات (إن صح التعبير) ما توصل إليه النشيد الإسلامي من استخدام التقنيات
الحديثة أو الإيقاع أو التوزيع الاحترافي مع صوته وطريقته الخاصة في التلحين والأداء
والذي بدا باهتا اختفت فيه بحات الناي التي ميزت صوته في ذاكرة محبيه.
بالرغم
من كل ما تكلمنا به سابقا. يمكن لنا أن نحاكم التجربة السياسية التي كانت حاضنة لهذه
التجربة الفنية الكبيرة. محاكمتها تاريخيا أو سياسيا، يمكننا أن نخالفها أو أن نتفق
معها. ولكن لا بد لنا من الامتنان الكبير لهذا الفنان العظيم الذي جسد بعبقريته المبكرة
وبصدق لا مثيل له مشاعر وجوانيات أناس آمنوا بفكرة ما في وقت ما. فله كل الشكر ورحمه
الله رحمة واسعة.