مقالات مختارة

الجزائر والمغرب والفخ الفرنسي

من السهل القول إن فرنسا وقعت في فخ الصراع الجزائري المغربي المزمن بحكم تاريخها وحاضرها مع البلدين. لكن في المقابل، أليس من الخطأ القول إن فرنسا نجحت في إيقاع الجزائر والمغرب في فخِّها من خلال حرصها على إبقاء علاقاتها دائما فاترة إلى متوترة مع أحد الطرفين دون الآخر؟ واقعيا في هذه العلاقة ثلاثية الأضلاع هناك دائما طرف في الحضن وآخر مستاء ينتظر دوره.

التوتر الدبلوماسي بين الجزائر والمغرب أمر مألوف وهو القاعدة لا الاستثناء. في كل فترات التوتر، وعلى اختلاف درجاته، كانت فرنسا حاضرة بشكل أو بآخر. لكن منذ حوالي سنة ونصف السنة تعيش منطقة شمال إفريقيا على وقع مستوى أخطر من هذا التأزم ومن الخوف من تمدد تداعياته المُتعِبة إلى دول الجوار. اليوم لا تستطيع تونس أن تفكر في قرار أو تحرك إقليمي دون أن تحسب حساب ردود الفعل عليه في المغرب وفي الجزائر. الشيء نفسه مفروض على موريتانيا وليبيا ويمتد إلى مالي والنيجر. وينسحب الأمر حتى على فرنسا مع فرق أن الصراع الجزائري المغربي لا يُفقد الدبلوماسية الفرنسية استقلاليتها وحرية حركتها، ولا يؤثر سلبا على خططها الخارجية.

كان حضور فرنسا في معادلة التنافس الجزائري المغربي مقبولا من الطرفين طالما بقي في حدود المسموح به. اليوم أصبح هذا الحضور أكثر وضوحا، وأكثر إثارة لردود الفعل، وأحيانا أقرب إلى إثارة التعجب. فكلما تحسنت علاقات باريس مع أحد البلدين غضب الآخر معتقدا أنه سيكون ضحية هذا التحسن. وكلما ساءت العلاقات مع أحد البلدين ابتهج الآخر معتقدا أن ذلك سيكون لصالحه.

فرنسا من جهتها عجزت عن التوفيق بين «الدولتين» فلا يحفظ المتابعون أنها نجحت خلال السنوات العشرين الأخيرة على الأقل في إقامة علاقات ممتازة مع كلا البلدين في توقيت واحد. كانت الكفة تميل دائما لصالح المغرب لأسباب عديدة ومُركّبة يتداخل فيها الموضوعي بالشخصي والعاطفي. وكانت الجزائر تشعر دائما بالامتعاض من دفء العلاقات الفرنسية المغربية، لكنها تعلمت العيش معه.

أجد صعوبة في تصديق أن «عجز» باريس عن إقامة علاقات متوازنة مع الجزائر والمغرب في توقيت واحد، أمر يفوق إرادتها. في أحسن الأحوال أن المسؤولين الفرنسيين لا يفعلون شيئا لترقية علاقات بلادهم مع الجزائر والمغرب إلى مستوى جيّد بالتساوي والتوازي. وفي أسوأ الأحوال هو خيار محسوب ومتعمد، المبتغى من ورائه الاستفادة من بلد وإبقاء الآخر يلهث وراء نيل الرضا ثم الحفاظ على الهوة شاسعة وسحيقة بين البلدين. مثلما هي أول مستفيد من الخلافات، ستكون فرنسا أول الخاسرين وأكثرهم إذا ما نجحت دول المغرب العربي يوما في تشكيل كتلة سياسية واستراتيجية واقتصادية مستقلة.

لا يجب أن ننسى أيضا أن لفرنسا تاريخا حافلا من سياسة «فرّق تسد» في دول المغرب العربي منذ العهد الاستعماري. ولا يوجد ما يمنعها اليوم من إحياء هذه السياسة، خصوصا مع هذا الكمّ الهائل من الخصومة في المنطقة.

في تحليل للأزمة بين الجزائر والمغرب، أوردت مجلة «الإيكونومست» (الخميس الماضي) أن فرنسا «تخلَّت عن المغرب لصالح الجزائر» مدفوعة بأزمة الغاز المترتبة عن الحرب الروسية في أوكرانيا. أكيد هناك فتور بين باريس والرباط يقابله نوع من الانتعاش بين باريس والجزائر. الفتور يعبّر عنه إصرار المغرب على إبقاء سفارته في باريس بلا سفير مدة طويلة في السنتين الأخيرتين، وكذلك قضاء الملك محمد السادس فترة زمنية معتبرة في فرنسا منتصف العام الماضي دون أن يلتقي الرئيس ماكرون.

والانتعاش مع الجزائر تعبّر عنه خطابات الود والزيارات المتبادَلة بين المسؤولين الجزائريين ونظرائهم الفرنسيين (زيارة قائد أركان الجيش الجزائري لباريس نهاية الشهر الماضي غير مسبوقة) والتخطيط لزيارة دولة سيقوم بها الرئيس تبون إلى باريس.

رغم ذلك، من الخطأ الاستسلام لفرضية وجود أزمة عميقة وشائكة بين المغرب وفرنسا. ومن الخطأ أيضا الحديث عن تطبيع لا توتر بعده بين الجزائر وفرنسا. ما يميّز علاقات فرنسا مع كلٍّ من المغرب والجزائر أنها تتأثر بالأهواء والأمزجة بقدر تأثرها بالمصالح الاستراتيجية والقرارات المصيرية. إنها علاقات انفعالية حساسة وسهلة التقلب نحو الأسوأ حتى لأسباب تبدو للمحايدين تافهة، وسهلة الإصلاح بطرق أبسط مما يتخيّل العقل أحيانا. من هنا فالتوتر المزعوم مع المغرب قد يُنهيه اتصال هاتفي من بضع دقائق بين العاهل المغربي والرئيس الفرنسي. وشهر العسل المزعوم بين الجزائر وفرنسا قد يطيح به مقال في صحيفة فرنسية أو تصريح عابر لسياسي فرنسي حتى لو كان عديم الأهمية.

لقد أخطأت «الإيكونوميست»: فرنسا لم تُفضّل الجزائر ولم تتخلَ عن المغرب. فرنسا فقط تدير فصلا آخر من فصول هذا المسلسل الأزلي. ويحدث أن تفاصيل هذا الفصل تميل هذه المرة لصالح الجزائر لسببين هامين بقدر ما هما بسيطان. الأول أن أوروبا المأزومة ترى في الجزائر البديل الجيّد والعملي للغاز الروسي. وفي تطلعها للغاز الجزائري لا تستطيع أوروبا تجاوز فرنسا لأسباب بديهية.

والسبب الثاني أن المغرب اختار في الآونة الأخيرة «اللعب الخشن» مع فرنسا والأوروبيين، ثم قرر التصعيد منذ منتصف الشهر الماضي عندما صوَّت البرلمان الأوروبي ضد المغرب في قضايا حقوقية تتعلق بالصحافيين والناشطين المغاربة المعتقلين. وبما أن فرنسا هي الأقرب للمغرب والأكثر استعدادا لتحمّل عتبه وغضبه، اختارت الرباط توجيه سلاحها نحو باريس أكثر من غيرها. في المقابل اكتفت فرنسا بتجاهل الموضوع وتفادي التصعيد، رسميا على الأقل.

في سياق واقع العلاقات الثلاثية وأجواء الريبة التي تغمرها، من السهل ترجيح أن الغضب المغربي مدفوع في جزء منه بالتقارب الفرنسي الجزائري وشعور الرباط بأنه يتم على حسابها.

العلاقات الفرنسية مع أكبر دولتين مغاربيتين معقّدة حتى من دون أزمة بينهما. أما مع كل هذا الصراع الذي يتسع يوميا ويزداد خطورة، فالأمر استحال إلى مستنقع حقيقي.

القدس العربي
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع