يبدو أن التحولات السياسية والاقتصادية في
العالم العربي والإسلامي ستجرى من الآن فصاعدا بعيدا عن الضغط الغربي أو على الأقل بدرجة أقل عما كان عليه الحال قبل 10 سنوات من الآن. والسبب الرئيس في ذلك بروز تحديات جديدة ما بعد
الحرب في أوكرانيا قّلَّلَت من القيمة الاستراتيجية للأوضاع في بلداننا مقارنة عما كانت عليه في بداية ما عُرف بالربيع العربي. اليوم انشغل الغرب أكثر بروسيا والصين.
لم تعد مسألة التنافس والصراع بين الكبار ذات طبيعة اقتصادية وسياسية، بل تحولت إلى الحرب. واحدة مشتعلة في أوكرانيا والأخرى على وشك الاشتعال في خليج تايوان. يعني هذا أن تأثير
الولايات المتحدة الأمريكية والغرب سيكون أقل نسبيا مما كان عليه على التحولات بِبلداننا، بل وسَيمنحنا ذلك فرصة أكبر لنكون أكثر استقلالية في قراراتنا، وستُصبح الفواعل الوطنية أكثر قدرة للعمل دون التعرض للضغوط أو التلاعبات الغربية أو الاستخدامات المختلفة في مجال التغيير السياسي أو الاقتصادي ضمن المنظورات الغربية.
وتُعد هذه بالفعل فرصة مواتية للقوى الوطنية لتقديم رؤيتها الإصلاحية بعيدا عن الضغوط الخارجية، كما أنه يُعَد فرصة لاختيار طرق وأساليب بناء مستحدَثة لا تكون بالضرورة أمريكية أو أوروبية. وما دامت القوى الشرقية الكبرى مثل الصين وروسيا ليس لديها مشاريع أيديولوجية تعدها للتصدير كما هو الأمر بالنسبة للنموذج الغربي الديمقراطي الليبرالي الموضوع كشرط لأي تحول جديد، فإن البدائل الوطنية ستُصبح أكثر جذبا للرأي العام.
لقد لاحظنا منذ بداية الألفية كيف أن عشرات المنظمات الحكومية وغير الحكومية ما فتئت تُقدِّم الدعم السياسي والإعلامي واللوجستي والمالي لكل عملية تَحوُّل تراها في عالمنا العربي والإسلامي بغرض توجيهها الوجهة التي تريد، وأحيانا لاحظنا كيف أن هذه المنظمات التي خلفها دول وهيئات رسمية تابعة لهذه الدول تقوم بالمبادرة بتحريك الأمور قَبليا وبَعديا، الأمر الذي نُسمِّيه نحن تدخلا خارجيا في شؤوننا الداخلية، وتعتبره القوى الغربية بمثابة الدعم الواجب تقديمه لنا لأجل ما تعتبره خيرا لشعوبنا وفي أول مقام الديمقراطية الليبرالية.
يبدو اليوم أن الوضع قد تغير بالفعل، في أقل من 10 سنوات تبدلت المعطيات الجيو استراتيجية في العالم ولم تعد الديمقراطية نهاية للتاريخ وأفضل بديل لِشعوب المعمورة، وقريبا لن يُصبح الدولار واليورو هما العملتين الوحيدتين المعترف بهما عالميا، بما يعني أن بوادر التغير الجديد أصبحت بارزة ليس فقط عسكريا أو جيواستراتيجيا واقتصاديا، بل وماليا أيضا..
في ظل هذا الوضع تبدو فرصتنا أكبر لتحقيق الإصلاحات المنشودة دون ضغوط كبيرة من قبل الغرب، أو في ظل ضغوط أقل حدة مما كانت عليه. وسواء تعلق الأمر بالولايات المتحدة أو فرنسا أو بريطانيا فإن التحولات العالمية اليوم ما بعد الحرب الأوكرانية قد قللت من قدرتها على المناورة باتجاه بقية الشعوب، بل لعلنا نستطيع القول أن درجة حدة الصراع بين الكبار التي اقتربت من مستوى الحرب النووية ستترك الصغار في مأمن لتعديل خياراتهم في مختلف المجالات.
وفي هذه الحالة ستزداد المسؤولية على القوى الوطنية لمعرفة الموقف المتوازن الذي يُمكِّنها من الاستفادة من هذا الوضع الجديد… ونحن الآن في مرحلة اختيار أفضل البدائل المتاحة أمامنا بدون الخوف من التأثير المباشر للكبار… وهي مرحلة ستمتد إلى غاية حصول تَبَدُّل جديد في الاستقطابات العالمية الكبرى، أي ستمتد على نحو 20 سنة من الآن.
إذا أحسنت القوى الوطنية في مجتمعاتنا إدارة هذه المرحلة فإنها بلا شك ستتمكن من بناء مشروعها المستقبلي المتميز بعيدا عن تجاذبات الشرق والغرب، وإذا لم تُدرِك طبيعة الرهانات ولم تُحسن إدارتها فإنها ستُفَوِّتُ فرصة سانحة لا تتكرر في كل الأوقات…
(عن صحيفة الشروق الجزائرية)