أفكَار

عن نبي الجزائر المنسي ويوم في زاوية الهامل الرحمانية

زاوية الهامل واحدة من مراكز التعبئة والنضال المشهورة في الجزائر (فيسبوك)
بينما كنا في طريقنا لزيارة زاوية الهامل التي يؤمّها شيخ الطريقة الرحمانية الخلوتية مولانا الشيخ محمد المأمون مصطفى القاسمي ظهرت لنا من البعد أضواء بلدة عامرة يقال لها سيدي خالد، فتذاكرنا مع مرافقينا أن الموجة الأولى من الجزائريين الذين وفدوا إلى دمشق وفلسطين بعد أسر الأمير عبد القادر الجزائري منتصف القرن التاسع عشر كان بعضهم من أولاد سيدي خالد؛ ثم ذكرت لبعض الرفاق أن هذا الموضع يضم مقام نبيّ عربيّ قديم ففوجئت الرفقة لهذه المعلومة الغريبة.

فهذا الموضع منسوب إلى خالد بن سنان العبسيّ، وقد وردت فيه آثار عديدة في مصادر السنة النبوية وكتب الأخبار أنه نبيّ ضيّعه قومه، وأن ابنته المحيّاة وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم مع قومها في السنة العاشرة للهجرة وهي عجوز كبيرة، وسألها رسول الله عن أبيها وأثنى عليه ووضع لها رداءه؛ وذكر له النسّابة الكبار أخباراً عن معجزاته مثل احتواء نار الحرتين حيث موضع حرة بني رشيد اليوم شرقي خيبر، وهي النار التي فتنت العرب حتى كادوا يتمجّسون، فدخلها وبدّدها، وقتل طائر العنقاء الضخم الذي كان يختطف الأطفال ويقتل الوحوش فانقطع نسلها وانقرض جنسُها؛ وذكرتُ لهم أن حافظ المغرب الكبير أحمد الصديق الغماري له كتاب في إثبات نبوته سمّاه إتحاف الأذكياء بإثبات نبوة خالد بن سنان بين عيسى وبين سيد الأنبياء، أو إعلام الأذكياء بنبوة خالد بن سنان بعد المسيح وقبل خاتم الأنبياء؛ وقبله كان للشيخ بركات بن باديس كتاب في إثبات نبوته سماه "مفتاح البشارة في فضائل الزيارة"؛ كما أن للشيخ عبد المجيد حبة كتاب يثبت نبوته سمّاه: "قيد الأوابد من حياة خالد"، وقد قال في كتابه هذا أنه:

بحثٌ طريف نفيس بـــــــــــــــه         ***     كشفتُ عن ابن سنان الغطـــا
جمعت منَ أخباره جملــــــــــــــة      ***     ومحّصتها بالذكا و الحجــــا
وأثبتّ فيه نبوءتــــــــــــــــــــــه       ***      وفنّدتُ كل خلاف جـــــــرى
وهذا هو الحق ليس عليـــــــــــه    ***      التباس و لا يعتريه امتــِــرا

وقد اختلف في نبوة العبسيّ القدماء بين مثبت لنبوته وأكثرهم من أهل السير والأخبار، وبين نافٍ لها وأكثرهم من أهل النظر والكلام، لأنه ليس بين رسول الله وعيسى بن مريم نبيّ يوحَى إليه، كما أن الرسل يكونون من أهل الحضر والمدن والقرى الضامّة وليس من الأعراب الفدّادين: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم).



ولكن بعضهم خرج من ذلك بالقول إنه نبي لم يبعثه الله برسالة، أو أنّه حكيمٌ مصلح يكون بين قومه، وقد كان داعياً إلى الحنيفية على ملة إبراهيم أو على منهاج عيسى عليه السلام، فقد كان يدعو إلى التوحيد ونبذ الخمر والميسر والزنا؛ والخلاف فيه شبيه بالخلاف على نبوة لقمان والخضر.

يقوم هذا الضريح على ربوة في الضفة الجنوبية لمجرى وادي جدي الذي يفصله عن بلدة سيدي خالد، وهو الآن داخل مسجد خالد بن سنان العبسي، ببلدية سيدي خالد غرب ولاية أولاد جلال، وما زال هذا المقام محل زيارة الآلاف لا سيما في ليلة 26 من رمضان كل عام.

ولا يعلم أحد سبب انتقال هذا "النبيّ" العربيّ من ديار عبس والحجاز أو جازان إلى الجزائر، وإن كان بعضهم يزعم أنه نبي أرسله الله إلى بلاد الأوراس، إذ ظل الأمر مطويّاً أكثر من تسعة قرون حتى أظهره رجل مشهور عند أهل العلم بمنظومته السهلة في علم المنطق "السلّم المنورق في علم المنطق" وهو الشيخ عبد الرحمن الأخضري وهو من منطقة الزاب التي يوجد فيها مقام ابن سنان -والأخضري من الفقهاء المشهورين بمحاربة البدع في القرن العاشر الهجري- إذ أظهر الأخضري هذا المكان بطريق الكشف والتربيع، وأن النبي العبسيّ قد جاء إلى الجزائر بعد أن ضيّعه قومه، ثم ضيّعه أهل هذا المكان قبل أن يظهر له في رؤياه الكاشفة، فعمّ الكشف في الأمصار وجاءه الزائرون من كل مكان، وهم يرددون قصيدة الأخضري:

سِرْ يا خليلي إلى رسمٍ شغفـت به          ...         طوبـَى لزائـر ذاك الرسم والطلـلِ
جـلّت شواهـدُه، عزّت دوائـره                ...         ما خاب زائـره في الصبح والأُصُل
يلقَى الجواهر مَن يغشى مناكبه        ...         يُعطَى الكرامة من يأتيه ذا وجل
  إن النبوة قد لاحت شواهدها             ...         كيف المحالة والأنوارُ لم تزل
 في خالد بن سنان البدرِ سيدِنا               ...          أخصّه بسلامٍ رائق حفل
 لله ما حاز مِن عز ومن شرف                ...          نال الرسالة يا ناهيك بالرسل
أنواره سطعت فوق الربى وبدت         ...         على الفيافي وفوق السهل والجبل


وعلى كل حال فإن هذا مقام ظهر بالكشف والرؤى المشهورة عن بعض الصالحين، والرؤى والمنامات الكاشفة عند القوم لا تعترف بالجغرافيا وإنما ترسم محلّ التجلّي، ولطالما تحوّلت أمكنة ظهور هذه الرؤى إلى مقامات ظنّها الناس لطول الزمن أضرحة لشبه عمارتها بها.

زاوية الهامل

1 ـ ارتحلنا صوب ولاية بوسعادة الجزائرية آخر النهار قاصدين زاوية الهامل، حيث الطريقة الرحمانية الخلوتية، فوصلنا ليلاً، وكان الشيخ محمد المأمون القاسمي عميد جامع الجزائر وشيخ زاوية الهامل أكرمه الله مرافقاً لنا ثم نهض لاستقبالنا مع نفر كبير من أهل الزاوية ومقدّميها رغم برودة الجوّ، ولم نتبيّن معالم الطريق وآثاره إلا في بدايات خروجنا من العاصمة الجزائرية باتجاه الجنوب.

2 ـ كانت الطريق معبّدة حسنة الانبساط في الغالب، لا تجد دكداكاً أو تكسراً إلا في بعض المنعطفات التفريعية قليلة السلوك، وكنا نزلنا بعد دخول الزاوية والصلاة فيها في فندق صغير ذي طراز تقليدي في بوسعادة وجدنا فيه ترحاباً حسناً، وأمضينا فيه ليلتنا، وعند انبلاج الصبح غادرنا ثانية باتجاه زاوية الهامل القريبة على مسافة نحو عشرة كيلومترات إلى الجنوب الشرقي اخترقنا فيها تلالاً جبلية جرداء صفراء وهضاباً محدودبة وسهولاً ضيقة ووادياً متقارب الجنبات شعرتُ فيها أنني أعبر الطريق بين دمشق وحمص محاذياً سلسلة جبال القلمون، ولم يكن الغطاء النباتي وفيراً فيها لأنها على عتبات الصحراء إلا إذا اقتربت من جبل امساعد حيث ترى بعض الزراعات المعتمدة على مياه الأمطار وأكثرها للقمح والشعير وبعض النخيل، وتزداد الخضرة أيضاً في بساتين حول الوادي.

3 ـ تقع بلدة الهامل على السفح الشرقي لجبل عمران، وفي قمة الجبل يمكنك أن ترى الزاوية حيث أنشأ الشيخ محمد بن أبي القاسم رباطه وزاويته الشهيرة للعبادة والتأمّل، تراها كأنها قلعة محصنة بلا أسوار ولا أبراج تصل إليها بطريق جانبية واسعة تصل إليها عبر بيوت متراصّة، ثم تنفتح عليك ببوابة مقوّسة بيضاء مزينة بزخارف خضراء وحمراء بسيطة مرسوم عليها البسملة باللون الأخضر، ثم تنفتح على ميدان واسع يتوسط مرافق الزاوية الكبيرة، وأول ما تراه المسجد الجامع الكبير بتوسعته الجديدة على آخر بناء في عهد ابنة الشيخ محمد بن أبي القاسم لالة زينب، وقد اكتسى بحلته البيضاء، تعتليه قباب صحراوية بديعة، فيما بقيت بقية الزاوية على بنائها القديم المغبرّ، وحائطها الخارجي الذي يظهر عليه التصدّع ربما من كثرة الحوادث الجليلة التي جرت عليه، إذ تروي كل لبنة قصة من قصص الزاوية في مناضلة الاستعمار وبناء المناضلين.

4 ـ  إلى يسار الداخل إلى ميدان الزاوية تجد بناء عالياً، فترى إلى يمين الداخل إليه غرفة هي في حقيقة الأمر زاوية تعبّد فيها محراب صغير تراءى فيها الشيخ عبد القادر الجيلاني مع مؤسس الزاوية الشيخ محمد بن أبي القاسم فيما ينقلون، وفي صحن هذا البناء شجرة تين معمرة لذلك سمي الموضع باسم حوش الكرمة، وفي هذا البناء موضع واسع للطعام والطبخ "النوالة"، يقدّم في أكثر الأيام أكلة "العياد" وهو الكسكسي من القمح الصلب.

5 ـ وبين الجامع وهذا البناء رواق مفتوح ينتهي بمساكن الطلبة والمريدين التي يجري تجديدها، وقبله بوابة مغلقة تضم في داخلها مرقد الشيخ محمد بن أبي القاسم وقد تجلل بالقطيفة الخضراء، وقد دخلنا حضرته، وسلمنا عليه ودعونا له بالخير المأثور بحضور نفر من أهل الزاوية وعرّفنا الشيخ مهدي القاسمي حفظه الله على بعض خصوصيات المكان وتاريخه.

6 ـ وفي بناء آخر إلى يسار الميدان تجد بناء عالياً ليس فيه نافذة واحدة فيه غرف واسعة يبدو أنه بيت الضيافة "العلي"، وفي دوره العلوي مكتبة غنية بالمخطوطات المصنفة الحسنة الترتيب يرعاها الدكتور فؤاد القاسمي وهي من أغنى المكتبات الخاصة الجزائرية بالمخطوطات.

7 ـ وهناك المنزل القديم الكبير الذي أنشأه مؤسس الزاوية لعائلته وتجد فيه غرفاً كثيرة لاستيعاب أسرته وضيوفها والنازلين عليهم، وهو خاص اليوم بمن يتولى مشيخة الزاوية.

8 ـ أشراف بلدة الهامل ومنهم الشيخ محمد المأمون القاسمي يعودون في أصولهم إلى الولي الصالح سيدي بو زيد بن علي الحسنيّ الذي ينحدر من سلالة إدريس الأول، والقاسميون ينحدرون بدورهم من فريق أولاد سيدي علي من فرق شرفة الهامل الخمسة.

9 ـ هذه الزاوية المتواضعة الجميلة لم تكن معمورة بالذكر والقرآن ودروس الفقه والتفسير والحديث فحسب بل إنها واحدة من مراكز التعبئة والنضال المشهورة في الجزائر في حقبة الاستعمار الفرنسي البغيض وقد كانت ممن نهض لثورة الأمير عبد القادر الجزائري، ثم تابعت بعده، وهي مزار مقصود من نواح كثيرة يأتيه الناس لطلب العلم وملاقاة شيوخ الزاوية وبركاتها، والتقاضي فيما يختلفون فيه، والتعلّم.

10 ـ ويستحق الحديث عن زاوية الهامل وطريقتها الرحمانية الخلوتية سِفراً كبيراً، ولو أتيح لنا زيارة أوسع لها لنالنا من أسرارها وبركاتها القدر العظيم، ولكنني أوثق هنا مشاهداتي السريعة آملاً أن أعود إليها ثانية منتفعاً بها ومتشرفاً بأهلها والقائمين عليها.

**كاتب ومؤرخ فلسطيني