في 15 ـ 10 ـ 2018 أعلن رئيس الوزراء الأسترالي المحافظ سكوت موريسون نية حكومته نقل سفارتها إلى القدس أسوة بالولايات المتحدة، وقد جاء ذلك في إطار سعيه لكسب أصوات اليهود والمسيحيين الإنجيليين في الانتخابات التكميلية التي كانت مقررة بعد خمسة أيام والتي كان يتوقف عليها استمرار تحالف الأغلبية الهشة الذي كان يقوده.
إعلان موريسون هذا قابلته في حينها تهديدات إندونيسيا بعدم المصادقة على اتفاقية التجارة الحرة التي كانت في طريقها إلى البرلمان الإندونيسي، ما جعله يفكر مرتين في الموازنة بين مزاوداته الانتخابية والمصالح الاقتصادية، فتوصل في 14 ـ 12 ـ 2018 إلى تصعيد محدود وهو الاعتراف بالشطر الغربي من القدس عاصمة للكيان الصهيوني، وهو الشطر الذي احتله الكيان الصهيوني في حرب 1948 وأعلنه عاصمةً له عام 1950؛ لكن أحداً في العالم لم يأخذ ذلك على محمل الجد حتى عام 1980.
في 1980 أعلنت الحكومة الصهيونية القدسَ بشطريها "عاصمةً أبديةً موحدة"، لتبدأ بذلك وبدعمٍ أمريكي الموجة الأولى من الاعتراف بها عاصمة ومن نقل السفارات إليها، ودامت تلك الموجة 26 عاماً وشهدت فتح 14 بعثة دبلوماسية انتهت بسحبها جميعاً، وكانت آخرها سفارة السلفادور في 2006؛ حتى جاء قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 6 ـ 12 ـ 2017 بتفعيل الاعتراف ونقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس ليفتتح الموجة الثانية من محاولات الاعتراف ونقل السفارات.
حكاية الاعتراف والتراجع في الموجة الحالية ليست حكراً على أستراليا، فإدارة ترامب سعت إلى أن يكون اعترافها بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ثم نقلها سفارتها إليها رأس قاطرة دولية كعادة الولايات المتحدة باعتبارها "قائدة" للعالم،
عودةً إلى أستراليا؛ حتى هذا الاعتراف الخجول و"المحسوب" لم يدُم، إذ أعلنت الحكومة الأسترالية العمالية تراجعها عنه في 18 ـ 10 ـ 2022، بعد خمسة أشهر من تشكيلها.
حكاية الاعتراف والتراجع في الموجة الحالية ليست حكراً على أستراليا، فإدارة ترامب سعت إلى أن يكون اعترافها بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ثم نقلها سفارتها إليها رأس قاطرة دولية كعادة الولايات المتحدة باعتبارها "قائدة" للعالم، وكان ترامب يعول على ثلاثة مصادر للحاق به:
الأول ـ حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في أوروبا الغربية، وبالذات في العالم الأنجلو ـ سكسوني في بريطانيا وأستراليا وكندا، وكانت أستراليا هي الوحيدة التي استجابت له من بين أولئك الحلفاء.
الثاني ـ أوروبا الشرقية بسبب حاجتها للدعم الأمريكي وبسبب صعود القوى اليمينية فيها، وكان رهانه هنا على رومانيا والتشيك وبولندا وهنغاريا ومولدوفا وصربيا وألبانيا وكوسوفو، وكل مساراته هناك تحولت إلى وعود وتصريحات جرى التراجع عنها قبل تطبيقها، أو تحويلها إلى صيغة رمزية كفتح بيت ثقافي أو ممثلية تجارية، باستثناء نجاح واحد هو كوسوفو.
الثالث ـ أمريكا اللاتينية باعتبارها الحديقة الخلفية التي تتجبر فيها الولايات المتحدة وتجرها حيث تريد، وتقود انقلاباتها وتضرب اقتصادها لتضمن تبعيتها، فكانت المحاولات مع غواتيمالا التي افتتحت سفارتها في 16 ـ 5 ـ 2018 بعد الولايات المتحدة مباشرة، ثم مع الباراغواي التي أعلن رئيسها المنتهية ولايته والخاسر للانتخابات هوراشيو كارتيز نقل سفارة بلاده وافتتاحها في القدس في 21 ـ 5 ـ 2018، ليعود الرئيس المنتخب ماريو عبدو بنيتيز إلى إعادتها إلى تل أبيب بعد ثلاثة أشهر وبمجرد توليه مهامه الدستورية. المحاولة شملت كذلك هندوراس التي افتتحت سفارتها في القدس بعد تردد في 24-6-2021، لكنها لم تلبث أن أعلنت في 8 ـ 8 ـ 2022 أنها تفكر في إعادتها إلى تل أبيب وهو ما أثار موجة غضب صهيونية.
البرازيل كانت فرس الرهان الأهم لترامب في أمريكا اللاتينية حينها؛ فقد تعهد رئيسها اليميني جائير بولسونارو بنقل سفارة بلاده إلى القدس قبيل انتخابه، لكن حسابات بولسونارو التجارية المدعوم من لوبي مربي المواشي الإقطاعيين لم تتوافق مع وعوده الانتخابية أمام التهديد بالمقاطعة من مستوردين كبار، فانتهى التمثيل البرازيلي هو الآخر إلى مكتب تجاري.
معضلة المشروعية كانت وما تزال المعضلة الأهم التي تهدد وجود المشروع الصهيوني بأسره، وليس فقط اتخاذه القدس عاصمةً مزعومةً له.
في المحصلة، يتشكل "قطار" نقل السفارات اليوم من أربع دول هي الولايات المتحدة رأس القاطرة ومن خلفها كوسوفو التي جرى ابتزازها بمشروعية وجودها، وغواتيمالا ثالثاً، وهندوراس رابعاً التي ما تزال تفكر في التراجع عن القرار؛ ومع كون أستراليا أكبر دولة استجابت نسبياً لهذا التحرك بالاعتراف الرمزي بالشطر الغربي من القدس عاصمة للكيان الصهيوني، فليس من قبيل المبالغة القول إن قرارها بالتراجع عن هذا الاعتراف يشكل رصاصة الرحمة على موجة نقل السفارات الحالية التي أطلفها ترامب في 2017، وإن تهديدات رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس ستنتهي إلى المصير نفسه، هذا إن نُفذت من الأساس، خصوصاً وأنها باتت تواجه تحديات وجودية مع الفشل القياسي لبرنامجها الاقتصادي خلال ثلاثة أسابيع فقط من بدء ولايتها.
إذا ما وضعنا إلى جانب ذلك قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 ـ 12 ـ 2017 بإدانة قرار الولايات المتحدة نقل سفارتها إلى القدس، والذي رفضته 9 دول فقط هي غواتيمالا وهندوراس وتوغو وبلاو وناورو ومايكرونيسيا وجزر مارشال إلى جانب الولايات المتحدة والكيان الصهيوني؛ يتبدى لنا شكل المقطورات التي يمكن للولايات المتحدة أن تشكلها في عالم اليوم، ويتبدى ما للحق من قوة كامنة ينبغي البناء عليها في تحويل قرار نقل السفارة إلى القدس إلى عبء دبلوماسي على الولايات المتحدة مع مرور الزمن، وهو تقدير الموقف الذي كان واضحاً منذ البداية، فمعضلة المشروعية كانت وما تزال المعضلة الأهم التي تهدد وجود المشروع الصهيوني بأسره، وليس فقط اتخاذه القدس عاصمةً مزعومةً له.
من المُبكر الابتهاج بنهاية الانقسام الفلسطيني
من الذي يمنع قيام انتفاضة ثالثة؟
الأحزاب العربية والانتخابات الإسرائيلية القادمة