ربما يبدو سؤال المقارنة بين الشيخ يوسف القرضاوي والإمام حسن البنا غير ذي جدوى، أو بالأحرى، غير قابل للطرح أصلا، فالشيخ القرضاوي رحمه الله، يعتبر نفسه تلميذا غير مباشر للإمام حسن البنا ومدرسته، وقد نذر نفسه لشرح أصول البنا، وبشكل خاص القاعدة التصورية التي بنى عليها البنا مشروعه الحركي (قاعدة الشمول)، وألف في مدرسة حسن البنا للتربية (التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا) وفي مدرسة البنا السياسية (التربية السياسية عند الإمام حسن لبنا)، وكان مدينا لأصوله العشرين في استلهام الرؤية التصورية التي انتظمت خطه الدعوي والحركي.
لكن هذا الموقع الذي اختاره الشيخ القرضاوي لنفسه، بإزاء أستاذه وملهمه الأستاذ حسن البنا، لا يمنع البتة من إجراء المقارنة، ما بين الرجلين من مسافة على مستوى الطريق التي اختارها كل واحد منهما، فمع اشتراكهما في الهم الدعوي والحركي والأصولي أيضا، فقد اختار البنا أن يبني تنظيما حركيا، تعهده ببناء خطه الدعوي والحركي ثم السياسي، في سياق متدرج، انتهى به إلى تحقيق توسع جماهيري كبير، حفزه لخوض غمار المشاركة السياسية، فوجد التنظيم نفسه في مواجهة تحدي الانسداد السياسي (قرار حل الجماعة سنة 1948)، في حين اختار الشيخ القرضاوي رحمه الله، أن يأخذ مسافة عن العمل التنظيمي، ويشتغل من موقع الترشيد الفكري والأصولي والسياسي، والتأسيس للقاعدة التصورية للتيار الوسطي (مفهوم الوسطية) الذي أصبح يخترق أغلب التنظيمات الحركية، سواء منها المنتظمة في تيار الإخوان، أو التي شقت طريقها بعيدا عن خطاطة الإخوان الفكرية والحركية.
في إرهاصات "المشروع".. إحياء مفاهيم البنا
ليس ثمة أدنى شك أن الشيخ القرضاوي رحمه الله تبنى خطاطة الإمام حسن البنا الفكرية بحذافيرها، وبشكل أساس، رؤيته الفكرية للدور الحركي للإسلام.
الكتابات الأولى للشيخ القرضاوي، وإن تأثرت بفكرة شمول الإسلام لكل مناحي الحياة (كتاب الإيمان والحياة، وكتاب العبادة في الإسلام، بالإضافة إلى كتابيه الفقهيين الحلال والحرام وفقه الزكاة)، ووظيفة الإسلام الحيوية في السياسة (دروس النكبة الثانية)، إلا أنها لم تعط صورة واضحة عن أي مشروع فكري أو قيادي، فقد بدأت إرهاصات هذا المشروع تظهر مع بروز فكرة التأليف وفق سلاسل، إذ ركزت الموجة الثانية من كتبه التي صيغت تحت سلسلة (حتمية الحل الإسلامي) على إعادة التأكيد على شعار الإخوان المسلمين (الحل الإسلامي)، وحتميته ومستقبله، وإفلاس المشاريع الأخرى المطروحة "الحلول المستوردة"، وتأطير الناشئة الحركية بجملة الأجوبة على الشبه التي يثيرها "أعداء الحل الإسلامي" لا سيما منها "شبهات العلمانيين والمتغربين"، ففي هذه الموجة، لم تخرج كتاباته عن خط التبشير بالتصور الحركي الذي وضعه البنا، لا سيما ما يتعلق بقاعدة شمول الإسلام لجميع مناحي الحياة، ومخاطر عزل الإسلام عن مجاله الحيوي (مجال الحياة بمختلف نواحيها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية...).
بدأ القرضاوي في رسم مشروعه الفكري المتفرد، مع بداية الثمانينيات، وتحديدا، مع بدايات تجربة الإدماج السياسي للإسلاميين في عدد من الأقطار، بما في ذلك مصر، التي حصل فيها تطور مهم في رؤية الإخوان السياسية، وذلك لما قرر الإخوان التحالف مع حزب الوفد سنة 1984.
كان المفترض زمنيا، أن تكون سلسلة "نحو وحدة فكرية للعاملين للإسلام" هي الثانية، أو تنافس الأولى، فهذه السلسلة في الأصل لم تفعل أكثر من شرح أصول البنا العشرين، إذ ركزت على مصدرية الإسلام والسنة في استلهام المعارف والأحكام (المرجعية العليا للقرآن والسنة)، وشرح الأصل الثالث من الأصول العشرين المرتبط بالموقف من الإلهام والكشف والرؤى، وترسيخ فكرة انبناء السياسة الشرعية على النظر المصلحي المقاصدي (السياسة الشرعية في ضوء الشريعة ومقاصدها)، بالإضافة إلى شرح أصول أخرى تتعلق بمنهج التعامل مع التراث والمذاهب الفقهية (كيف نتعامل مع التراث والتمذهب والاختلاف) والقضايا العقدية والكلامية المتصلة بالصفات وخلاف السلف والخلف (فصول في العقدية بين السلف والخلف).
المثير في هذه السلسلة التي تأخر صدور أغلب عناوينها، أن كتاب "شمول الإسلام"، الذي صدر ضمنها، كتب القرضاوي بعض فصوله مبكرا، وذلك في منتصف الستينيات، ونشره كله في بداية السبعينيات، وهو ما يتوازى مع زمن نشر كتب سلسلة الحل الإسلامي، التي كتبت في بداية السبعينيات، ويؤشر بذلك، على عنوان عريض يسم إٍرهاصات المشروع الفكري للقرضاوي، والذي بدأ فعليا بمرحلة شرح التصور الفكري الحركي الذي صاغه الإمام حسن البنا حول دور الإسلام في الحياة، وشرح أصوله العشرين، التي قدمت الإطار العقدي والفكري والأصولي والفقهي الذي يؤطر وجهة نظر الإخوان.
من المفيد أن نضع كتابات القرضاوي في الموجة الأولى والثانية في سياقها السياسي، أي سياق حكم السادات، وبروز مؤشرات الانفتاح على الإسلاميين، ومحاولة توظيفهم لتصفية النفوذ القومي الاشتراكي داخل بنية الكم، بما في ذلك النخب التي كانت تدين بالولاء لموسكو داخل إدارة الحكم في مصر، والإفراج عن معتقلي الإخوان، وبروز رغبة قوية لإحياء المشروع الحركي وإضفاء حيوية عليه، فكانت كتابات القرضاوي في هذه المرحلة، تقوم بجزء من هذه الوظيفة، أي استعادة المشروع الفكري الذي أسس له البنا، وشرح مفرداته، والتأكيد على أن المشروع لم يستنفد أغراضه، وأنه لا يزال يصلح لاستئناف التجربة من جديد.
لكن هذا الجهد في إحياء المشروع الفكري لحسن البنا، لم يخل من نظرات نقدية، وجهها الشيخ القرضاوي لبعض مفاهيم المودودي وسيد قطب، لا سيما ما يتعلق بمفهوم الحاكمية، ومفهوم الجاهلية، فكتب مبكرا، في "بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين" وتحديدا عند مناقشته لصلة مفهوم الحاكمية بمفهوم الدولة الدينية، ينتقد على هذين المفكرين تصورهما لمفهوم الحاكمية، ويرى أن المقصود بهذا المفهوم الحاكمة العليا، التي لا تنفي أن يكون للبشر قدر من التشريع أذن الله به لهم، وإنما تمنع أن يكون لهم استقلال بالتشريع غير مأذون به من الله، وأن التشريع الذي يمنع فيه التقدم على الله، هو ما يخص الدين المحض (العبادة) أو التشريع الذي يصادم النصوص الشرعية فيما عدا العبادة، أما ما عدا ذلك، فمن حق المسلمين أن يشرعوا لأنفسهم، وذلك في دائرة ما لا نص فيه أصلا وهو كثير، ومثل ذلك ما نص فيه على المبادئ والقواعد العامة دون الأحكام الجزئية التفصيلية.
في إرهاصات تفرد "المشروع الفكري للقرضاوي"
بدأ القرضاوي في رسم مشروعه الفكري المتفرد، مع بداية الثمانينيات، وتحديدا، مع بدايات تجربة الإدماج السياسي للإسلاميين في عدد من الأقطار، بما في ذلك مصر، التي حصل فيها تطور مهم في رؤية الإخوان السياسية، وذلك لما قرر الإخوان التحالف مع حزب الوفد سنة 1984.
النظر في أدبيات القرضاوي في هذه المرحلة، يقود إلى تصنيف ثلاثة انشغالات أساسية كانت تؤطر مركز تفكيره، الأول، وهو مشاركة الهموم المنهجية والأصولية التي طرحها المعهد العالمي للفكر الإسلامي، لا سيما ما يتعلق بمنهج التعامل مع مصادر المرجعية الإسلامية، قرآنا وسنة، ومحاولة النسف المنهجي والأصولي لنظرات السلفيين التي كانت مهيمنة على الساحة الفكرية في العالم العربي. والملاحظ في زمنية النشر، أن هذا الاهتمام جاء متأخرا عن بقية الانشغالات الأخرى (1989 بالنسبة لكتابيه: كيف نتعامل مع السنة النبوية معالم وضوابط، ثم كتاب السنة النبوية مصدرا للمعرفة والحضارة) أما كتاب "كيف نتعامل مع القرآن"، فلم يظهر إلا في منتصف التسعينيات، وسبب تأخره، أن معضلة التعامل مع القرآن لم تطرح بالحجم الذي طرحت به مشكلة التعامل مع السنة، وأن هيمنة فقه التطرف والانغلاق على المشهد الديني في العالم العربي، كانت تتأسس على فهم السنة، أكثر من فهم القرآن.
ليس ثمة أدنى شك أن الشيخ القرضاوي رحمه الله تبنى خطاطة الإمام حسن البنا الفكرية بحذافيرها، وبشكل أساس، رؤيته الفكرية للدور الحركي للإسلام.
ومن الجدير بالملاحظة على هذا الاشتغال الذي تقاسم فيه القرضاوي الهم المنهجي والأصولي مع مدرسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي، أن كتابه "كيف نتعامل مع السنة النبوية"، جاء عقب كتاب الشيخ محمد الغزالي: "السنة النبوية بين أهل الفقه والحديث"، وربما كان يقصد لتحقيق هدفين اثنين، الأول منهجي، من خلال ترسيخ المعالم والضوابط العلمية، والثاني، نفسي وعاطفي، بقصد احتواء موجة الاحتقان التي أثارها كتاب الغزالي، فكان غرض الكتاب تلطيف الأجواء المحتقنة باختيار العبارات العلمية، مع أن المقصود والمضمون واحد.
الانشغال الثاني، فقهي، وانصب أساسا على فكرة تيسير الفقه للمسلم المعاصر، وضمنه، تم التأصيل للموقف من الغناء والموسيقى واللهو والترويح، وذلك بقصد إدماج الحركات الإسلامية في المشهد الثقافي الفني وإنهاء عزلتها عنه، وإزاحة العوائق أمام التعبيرات الفنية داخل صفوفها، والإفادة من دورها في نشر فكرة الحركة الإسلامية في الأوساط الثقافية والفنية، وتوسيع امتدادات الصحوة الإسلامية.
وكما فعل الشيخ القرضاوي في الموجة الثانية من إٍرهاصات مشروعه الفكري (نقد الحاكمية عند المودودي وسيد قطب) وجه نقدا شديدا لأفكار سيد قطب خصوصا مفهوم الجاهلية وموقفه من الاجتهاد والتجديد الفقهي لأحكام الإسلام، فأفرد في كتابه: "الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط" فصلا في مناقشة هذه الآراء وتفنيدها، فتقدم خطوة ثانية في نقد منطق الرفض الذي أسس له فكر سيد قطب، وتأثرت به عدد من الجماعات الإسلامية.
أما الانشغال الثالث، فتمحور حول ترشيد الصحوة الإسلامية والحركة الإسلامية، فظهر أول كتبه ضمن سلسلة منشورات كتاب الأمة تحت عنوان "الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف" سنة 1982، وقد خصصه لظاهرة التطرف الإسلامي، التي أضحت تهيمن على عقلية بعض مكونات الحقل الإسلامي، فاتجه قصده إلى تخليص فكر أبناء الصحوة والحركة الإسلامية من المفاهيم الملتبسة التي ينشأ عن سوء فهمها أو عن فهمها المغلوط ظاهرة الغلو والتطرف. وعلى غرار ما حصل في الانشغال الثاني، فقد خطا القرضاوي خطوة ثالثة في نقد أجزاء مهمة من التراث الفكري لسيد قطب والمودوي، فضلا عن التراث الفكري الذي خلفته القيادات الفكرية لجماعة الجهاد والجماعة الإسلامية بمصر، ولم يكتف في تعزيز هذه الخطوة بهذا الكتاب فقط، بل سبقته دراسة مهمة نشرها بعنوان: "ظاهرة الغلو في الدين" تضمنت البحث في جذور التطرف وأسبابه وشكل تمثله لنصوص القرآن والسنة، وانزياحاته عن الأصول والمقاصد في فهمهما.
والمتأمل في الأدبيات التي أنتجها القرضاوي ضمن هذا الانشغال الثالث، أنها انصرفت إلى جهود الترشيد الفكري والحركي، إذ بدأت بواد تبلور مفهوم الوسطية، بالمعنى الذي يفيد وضع الأسس الفكرية والمنهجية والحركية لتشكيل تيار الوسطية الجامع المخترق لمكونات الحركات الإسلامية المتعددة.
تأصيل للوسطية أم إعادة تأسيس التيار الوسطي الواسع
من المهم أن نشير إلى أن مفهوم الوسطية برز مبكرا عند القرضاوي كخاصية من الخصائص العامة للإسلام، لكنه لم يتبلور كقاعدة تصورية لبناء تيار واسع يخترق مختلف الطيف الحركي الإسلامي، إلا مع فترة ترشيد الحركة الإسلامية ومتابعة تحدياتها ومحاولة تقديم أجوبة عملية عنها.
يشكل كتاب "أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة الراهنة" الذي صدر سنة 1990، التحول المفصلي في فكر القرضاوي، والمؤشر على تنامي دوره القيادي، ليس فقط كحامل مشروع فكري ترشيدي للصحوة الإسلامية والحركة الإسلامية، وإنما كمؤسس للقواعد المنهجية والفكرية والأصولية والفقهية والحركية والسياسية للتيار الوسطي الذي يخترق الحركة الإسلامية بمختلف أطيافها. ففي هذا الكتاب قدم القرضاوي مفهومه للحركة الإسلامية، وأصل لأولوياتها في المرحلة القادمة على كافة المستويات، سواء في العمل التربوي أو السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الجهادي أو الدعوي والإعلامي أو العمل الفكري والعلمي، فبرزت هذه "القيادية" في الأولويات التي اقترحها على الحركات الإسلامية في كل مجال على حدة، والتي اختصرت في المجمل الأدبيات والانشغالات الفكرية التي اشتغل عليها في السابق، فتحدث في المجال الفكري والعلمي، عن أولوية إرساء فقه جديد قائم على فقه الأولويات والموازنات، وضرورة الجمع والتكامل بين فقه الشرع وفقه الواقع، والحاجة لإعمال النظر المصلحي والاعتبار المقاصدي، ووضع في مجال الدعوة والتثقيف العام هدف الانفتاح على المثقفين وعلى هموم الجمهور، والاقتراب من رجال الأعمال ومحاولة إدماجهم، والاهتمام بالعمل النسوي.
وظهرت فعالية مفهوم الوسطية في الأولويات التي طرحها في مجال التربية، وذلك حينما دعا الحركة الإسلامية إلى عدم الانسياق وراء الصراع المصطنع بين السلفية والتجديد، أو بين السلفية والصوفية، محاولا تجسير العلاقة بين هذه المكونات، وإعادة صياغتها ضمن منظور وسطي يقوم على مبدأ التيسير، وبرزت معالم الإدماج السياسي في أولوياته في المجال السياسي، فسواء تعلق الأمر بموقفه من الديمقراطية أو التعددية السياسية أو الأقليات أو الحوار مع النخب الأخرى العلمانية، أو الحوار مع الحكم أو مع الغرب، فقد كان القرضاوي ينطلق من رؤية تسعى إلى إدماج الحركة الإسلامية في الحقل السياسي وتوسيع دائرة مشاركتها فيه مع المراهنة على توسيع جماهيريتها وتجدرها في الأوساط الشعبية بالحفاظ على ثوابتها ومناصرتها للقضايا العادلة.
لقد أسس البنا لحركة إسلامية تجدرت شعبيا في المجتمع، وحاولت أن تندمج في حقل السياسة (المشاركة السياسية) لكن غموضها الاستراتيجي (ماذا تريد على وجه التحديد في حقل السياسة) وارتباك خياراتها التكتيكية والمرحلية، وضعف إدارتها للعلاقة مع الآخر، جعلتها تعيش حالة الانسداد السياسي في كل محطة،
يعيد القرضاوي تأصيل هذه القضايا في كتبه المتأخرة، سواء في كتابه: "فقه الدولة في الإسلام" الذي خصصه للإجابة عن أغلب التحديات السياسية المطروحة على الحركات الإسلامية، ومنها على وجه الخصوص الموقف من الديمقراطية والتعددية السياسية وتأسيس الأحزاب وحق المعارضة السياسية وحقوق المرأة وغير المسلمين، أو في كتابه "الإسلام والعنف" الذي صدر سنة 2004، والذي استدعاه حدث الحادي عشر من سبتمبر، وموجة الانتقادات التي وجهت للتيار الإسلامي على خلفية موقفه من العنف، فجاء الكتاب يضع المسافة البعيدة بين التيار الوسطي الذي يؤمن بالعمل الإصلاحي السلمي، وبين التيارات الجهادية التي تتبنى العنف.
هذه الانشغالات كانت تلخص في الجوهر، المهمة القيادية التي كان القرضاوي يقوم بها (التأسيس للقاعدة الفكرية والحركية والسياسية للتيار الوسطي)، لكن، ليس من موقع تنظيمي، وإنما من الموقع الأكثر تأثيرا (الموقع الفكري والمنهجي والأصولي والفقهي).
والواقع، أن انشغال القرضاوي بتأصيل فكرة الوسطية في كتابه: "كلمات في الوسطية الإسلامية ومعالمها"، ووضع عشرين معلما لها، والانفراد بشرحها دون غيره كما صرح بذلك، يكشف هذا الرهان القيادي، الذي كان يمثل النسخة التصحيحية لتجربة البنا، الذي اختار أن يؤسس التيار من بوابة الفعل الحركي التنظيمي.
يقرأ الكثيرون في كتاب الوسطية الذي ألفه الشيخ يوسف القرضاوي على أنه مجرد محاولة لاحتواء الخلاف بين مكونات الأمة المتصارعة، بإيجاد جسر بين الثنائيات الحدية المتقابلة (سلفية في مقابل صوفية) (أصالة في مقابل معاصرة) (سلفية في مقابل تجديد) (تشدد في مقابل ميوعة) (اتجاه لفظي في تفسير النصوص في مقابل اتجاه مقاصدي)، وما إلى ذلك من الثنائيات المتعارضة التي تخترق مكونات الأمة، وينشأ على أثرها صراع احترابي يبدد جهود الأمة ويستنزفها، لكن الجوهري في مشروع القرضاوي، ليس فقط مجرد إيجاد هذا الجسر بين هذه الثنائيات المتضادة، أو احتواء الخلافيات بين مكونات الأمة، أو تأطير الخلاف بأدب الإسلام وقواعده في المناظرة والحجاج، إنما الجوهري في تقديري، هو شق طريق وسط، يستقطب من أطراف التيارات المتنازعة، ويوسع امتداد التيار الوسطي، ويجعله ضاربا وراسخا في جذور المجتمع حاملا معه روافد مختلفة، ينتظمها تيار واحد هو ما سعى القرضاوي إلى تأسيسه، ولو اختلفت راياته وهيئاته التنظيمية.
لقد أسس البنا لحركة إسلامية تجدرت شعبيا في المجتمع، وحاولت أن تندمج في حقل السياسة (المشاركة السياسية) لكن غموضها الاستراتيجي (ماذا تريد على وجه التحديد في حقل السياسة) وارتباك خياراتها التكتيكية والمرحلية، وضعف إدارتها للعلاقة مع الآخر، جعلتها تعيش حالة الانسداد السياسي في كل محطة، وتتداعى لحظة الانفراج إلى إعادة ترميم مشروعها بالانطلاق من الهوية الفكرية (الشمول) والهوية الحركية (إعادة بناء التنظيم) بينما خرج القرضاوي بالمطلق من هذه الشرنقة، واختار موقعا آخر غير الموقع التنظيمي (الموقع الفكري الترشيدي)، فأسس لتيار وسطي يخترق مكونات الفعل الإسلامي، ورشد خطواته، وأسس لأهم المفاهيم التي تساعده على الانسياب في مؤسسات المجتمع الدولة، ووضع الأولويات الحاسمة التي تمكنه من خوض تجربة الاندماج السياسي وفق معادلات دقيقة، تجنبه الوقوع في تجارب الانسداد السياسي المريرة.
عن الإسلام والتسامح.. نقاش لمقولات فوكوياما وهنتنغتون
وزير مغربي سابق: "الإسلاموية" مصطلح سياسي لا سند له واقعيا
القرضاوي.. هل شكل مرجعية دينية تجاوزت الحزبية والمذهبية؟