يُعتبر "تل مجدو" الواقع شمال غربي مدينة جنين المحتلة في الضفة الغربية واحدا من أهم المواقع الأثرية داخل فلسطين المحتلة، وهو مقصد سياحي هام على مستوى العالم.
وشهد التل الذي تحول إلى مدينة على مدار 9 آلاف سنة ماضية تعاقب العديد من الحضارات والاستيطان البشري فيه كونه يسيطر على الطريق الرئيس الرابط ما بين سوريا ومصر، ما أكسبه أهمية استراتيجية وعسكرية وتجارية عبر العصور التاريخية المختلفة، وجعله ملتقى للتجارة ومسرحا لعدة معارك عبر التاريخ.
ويقع "تل مجدو" على بُعد 18 كم شمال غربي مدينة جنين، ويرتفع حوالي 175 متراً فوق سطح البحر، ويقع التل على الطريق الذي يخترق جبال الكرمل على الساحل من الجهة الغربية ويتحكم بمدخل مرج ابن عامر من الجهة الشرقية من ناحية.
وتحاول دولة الاحتلال وعلماء آثارها التوراتيين خلق تاريخ مزور لها في هذا الموقع كونه يقع تحت سيطرتها، لتعزيز روايتها الكاذبة حول احتلال فلسطين وخلق تاريخ مضلل لها لخداع العالم به.. إلا أن الشواهد التاريخية في مجدو تكذب ذلك وتؤكد أن هذه الأرض كنعانية فلسطينية.
وأكد الدكتور وائل حمامرة مدير التنقيب والمسح الأثري في وزارة السياحة والآثار أن مجدو هي مدينة كنعانية تقع شمال فلسطين، ويعود تاريخها إلى 7 آلاف سنة قبل الميلاد بحسب التنقيبات الأثرية فيها.
وقال حمامرة لـ "عربي21": "تميزت مچدو في ظل الحضارة الكنعانية العريقة؛ بالبناء الحجري والأسوار الكبيرة، والقصور الفخمة، واشتهرت بصناعة النسيج والملابس ولا سيما تقدمها بمجال الزراعة.
وائل حمامرة مدير التنقيب والمسح الأثري في وزارة السياحة والآثار
وأكد أنها من أهم المواقع الأثرية في فلسطين، حيث صُنفت في عام 2005م ضمن قائمة اليونسكو لموقع التراث العالمي.
وقال: "جرت أولى أعمال التنقيبات الأثرية في موقع مجدو مطلع القرن العشرين ما بين عامي 1903م ـ 1905م من قبل عالم الآثار الألماني شومخر، عقبتها تنقيبات أخرى من قبل معهد الدراسات الشرقية ـ جامعة شيكاغو ما بين عامي 1925م ـ 1935م، ثم تلتها تنقيبات أخرى بعد نكبة الشعب الفلسطيني واحتلال ارضه من قبل الإسرائيليين عام 1948م وذلك من قبل يغيال يادين ما بين عامي 1960م ـ 1971م وذلك باسم الجامعة العبرية، ومنذ العام 1994 عادت التنقيبات للموقع وما زالت مستمرة حتى الوقت الحاضر".
وأضاف: "دلّت الحفريات الأثرية على أنه موقع مدينة كنعانية الأصل، وقد تعاقبت على التل 20 مدينة خلال حقب مختلفة تتراوح ما بين عامي 4000 و400 قبل الميلاد، يعود أقدمها إلى أواخر العصر الحجري الحديث".
وتابع: "استمر الاستيطان في الموقع إلى العصر الإمبراطورية الفارسية الفارسي دون انقطاع، وقد كانت تتداولها جيوش أمم كثيرة منها هكسوس الهكسس والفلستيون والآشوريون والبابليون والمصريون والإمبراطورية اليونانية، والإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية الفارسية ثم الدولة الإسلامية والاحتلال البريطاني والإسرائيلي".
وأوضح أنه يوجد في مجدو الكثير من الآثار لقصور فخمة ومبان كنعانية حجرية وأسوار ثلاثية الجدران وغرف للحراس، ومخزن الحبوب ما زال حفرة بالأرض ما زالت حجارتها على شكل مخروطي ودرجات تصعد على جوانبه، وإسطبلات.
وقال حمامرة: "اشتهرت مجدو لفترات طويلة بزراعة الحبوب والزيتون واللوز، وبصناعة النسيج والملابس وصناعة الفخار التي كانت تصل اوانيهم الفخارية حتى مصر، ولهذا تكثر في الموقع الكثير من قطع الفخار، وتطورت فيها صناعة الحلي".
وأضاف: "عثر فيها على كنز كنعاني نفيس فريد من نوعه يعود لما قبل 3100 سنة، مثل القطع الذهبية والأحجار الكريمة وأقراط كبيرة بشكل سلة بداخلها نعامة، وخاتم، والف خرزة ذهبية وفضية وقطع عاج".
وأضاف: "إن المنقبين عثروا على الكثير من الأدوات الصوانية والفخارية والحجرية التماثيل التي تعود لحقب زمنية مختلفة، إضافة للحلي والمجوهرات وكذلك المشغولات أو المصنوعات العاجية التي تميز بها تل مجيد، مشيرا الى انه تم العثور كذلك على منحوتات مميزة من بينها قطعة تحمل رسم غائر يصور حاكم مجدو يجلس على كرسي العرش وهو يستقبل الضرائب والأسرى وتعود بتاريخها للعصر البرونزي المتأخر".
ومن جهته قال عوني شوامرة، مدير دائرة الإصدارات والنشر في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية: "إن علماء الآثار التوراتيين يحاولون ربط مجدو بالقصص الواردة في العهد القديم وخاصة في سفر القضاة وسفر الملوك الأول، في محاولة لربط الأسماء التي ذكرت في العهد القديم بالمواقع الجغرافية في فلسطين، بهدف خلق تاريخ مفترض معزز بالروايات الدينية وتبرير احتلال فلسطين واجتثاث أهلها من خلال طمس وسحق الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني".
عوني شوامرة، مدير دائرة الإصدارات والنشر في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية
وأضاف شوامرة لـ "عربي21": "هذا الادعاء اليهودي الزائف تهاوى أمام المكتشفات الأثرية التي دحضت زيف ادعائهم الباطل، حيث أن المكتشفات الأثرية نفت تلك المزاعم والقصص والخرافات؛ ولكن الموقع بقي محطة هامة للسياح على مستوى العالم لأن دولة الاحتلال ما زالت تنفرد بكتابة تاريخ فلسطين".
وأوضح أنه يسيطر على الطريق الرئيس الرابط ما بين سوريا ومصر، مما أكسب مجدو عبر العصور التاريخية المختلفة الأهمية الاستراتيجية العسكرية والتجارية ليصبح يُعرف لاحقاً باسم فياماريس Via Maris وهو طريق الممتد على السهل الساحلي الفلسطيني من الشمال إلى الجنوب ويتفرع منه طرق داخلية، مؤكدا ان هذا الموقع المميز جعل من مجدو ملتقى للتجارة ومسرح لعدة معارك عبر التاريخ.
وقال: "عرف التل باسم مجدو منذ أقدم العصور فقد ظهرت تلك التسمية بألفاظ وأشكال متعددة في الوثائق والنقوش المصرية والأشورية، وفي فترة لاحقة أصبح يُعرف الموقع باسم (تل المتسلم) ويعزو البعض سبب التسمية نسبة إلى متسلم لواء اللجون، وهو الوالي العثماني الذي كان يقيم في الموقع".
وأوضح أن تل مجدو يعتبر واحد من أهم المدن الكنعانية في شمال فلسطين، حيث أظهرت التنقيبات الأثرية في التل أن أقدم دلائل الاستيطان البشري في الموقع تعود للعصر الحجري الحديث تقريباً 7000 ق.م، وقد عثر المنقبون على بقايا حضارية تمثل الثقافة اليرموكية الأولى والتي تمثلت في البقايا الفخارية وأدوات صوانية بالإضافة لتمثال، استمر الاستيطان للعصر الحجري النحاسي (4500 ـ 3200 ق.م) حيث تمركز استيطان تلك الحقبة بالقرب من نبع التل "عين القبة".
وقال: "في مطلع القرن الرابع خلال العصر البرونزي المبكر ازدهر الموقع بصورة ملفتة فاقت جميع المواقع المحيطة حيث عُثر على مبنى ضخم ومميز وهو عبارة عن هيكل أو معبد كنعاني ضخم أبعاده(47.5×22) م، وهو يفوق بعشرة أضعاف المعابد الأخرى، ويُعد المعبد الأكبر والأضخم على مستوى بلاد الشام وكذلك على مستوى البلدان في منطقة البحر الأبيض المتوسط بشكل عام، ضم هذا المعبد الكنعاني مذبحاً لتقديم القربان، حيث تم الكشف عن مخزون هائل من عظام الحيوانات التي تعود لصغار الأغنام والماعز وبعض المواشي الأخرى. وفي محيط المعبد تم الكشف عن العديد من المباني العامة والخاصة".
وأضاف: "تراجعت المدينة الكنعانية مع نهاية العصر البرونزي المبكر تقريباً ما بين 2300 و2000 ق.م، ثم عاد الاستيطان بقوة للتل خلال العصر البرونزي المتوسط، حيث بلغت مساحة المدينة تقريباً 20 هكتار (200 دونم) وتضم المدينة العليا والمدينة السفلى، عثر المنقبون على مقبرة ملكية في التل تعود بتاريخها تقريباً ما بين 1700 و1600 ق. م، حيث كانت مجدو الكنعانية في ذروتها وقتئذٍ".
وأكد شوامرة أنه ومع بدايات العصر البرونزي المتأخر تعرضت مدينة مجدو الكنعانية للإجتياح من قبل تحتمس الثالث (1479- 1425 ق.م)، حيث أخضع المدينة تحت سيطرة فأصبحت مجدو جزءاً من الإمبراطورية المصرية، حيث بُني فيها قصر حكومي ضخم في تلك الفترة.
وأشار إلى أنه تم ذكر اسم مجدو في أرشيف تل تعنك (يقع إلى الغرب من مدينة جنين) بصيغة مجيدا ma-gi-id-da حيث يُذكر في النص أن المفوض المصري يطلب عرابات وأسرى وأحصنة بهدف إرسالها لمجدو.
وقال: بقيت مجدو خاضعة للحكم المصري الفرعوني في القرون اللاحقة، حيث ظهر اسم مجدو في رسائل تل العمارنة ما بين 1353 و1336 ق.م، لا سيما في الرسالة رقم E245 فذكرت الوثيقة اسم حاكم مجدو وهو بريديا Biridiya وبعض الحكام المعاصرين له مثل لابايا شكيم Labyaya (حاكم شكيم ـ نابلس) وكذلك سوراتا Surata حاكم عكا".
وأضاف: "في حدود 1140 ق. م تقريباً انتهت السيطرة المصرية على المدن الكنعانية بشكل عام، استمر الاستيطان البشري في التل خلال العصر الحديدى الأول (1037- 913 ق.م) ولكن تعرضت تحصينات الموقع للحرق والتدمير إثر الهجوم المصري بقيادة ششنق الأول Shoshenq I حيث استولى على مجدو في الفترة الممتدة ما بين 923 و922 ق.م، وقام بنقش انتصاره على مجدو في معبد الكرنك. وخلال العصر الحديدي الثاني تميزت مدينة مجدو بأنظمة المياه والتحصينات والمنشآت على مستوى بلاد الشام قاطبة.
وأوضح شوامرة ان المدينة تعرضت للهجوم من قبل الأشوريون بقيادة تجلات بلاسر الثالث Tiglath-Pileser III تقريباً عام 733 ق.م لتصبح مقاطعة أشورية جديدة، وفي عام 609 ق.م تعرضت مجدو لغزو مصري جديد بقيادة نخو الثاني Necho II، مشيرا الى انها ذكرت في الوثائق الاشورية بنفس التسمية مجدو Magiddu.
وقال: "استمر الاستيطان بوتيرة ضعيفة في مجدو ثم تراجع شيئاً فشيئاً إلى أن هجرت المدينة بشكل تام، فانتقل الاستيطان إلى مدينة أخرى بُنيت بجوار مجدو وهي اللَجُّونْ التي استمدت اسمها من الاسم الروماني لجيو Legio المشتق من ليجيون Legion والتي تعني الفيلق الروماني، وهي إحدى القرى المدمرة التي دمرها وهجر أهلها الاحتلال الإسرائيلي عام 1948م.
وأضاف: "أظهرت التنقيبات الأثرية الكثير من المعالم واللقى الأثرية بدءًا من العصور الحجرية بداية الفترة الكلاسيكية، فقد تم الكشف عن معالم المدينة في العصر البرونزي المبكر من تحصينات ومبانٍ عامة وأخرى خاصة وكذلك هيكلاً مميزاً، وكذلك الأمر في مدينة العصر البرونزي والمتوسط وكذلك العصر البرونزي المتأخر إضافة إلى المدينة في العصر الحديدي".
وأوضح شوامرة أن التل ضم وعلى مر العصور التاريخية المختلفة تحصينات وأسوار وبوابات ومعابد وهياكل وقصور وبيوت واسطبل ضخم للخيول بالإضافة لنظام مائي معقد وهو عبارة عن نفق مائي بطول 127م تقريباً، ويقع في الجهة الجنوبية الغربية من التل، حيث يربط المدينة مع عين الماء (عين القبة)، ويتم النزول إليه من خلال درج يفضي بدوره لمياه النبع، هذه العين كمصدر دائم للتزود بالمياه والسهول الخصبة وهي سهل مرج ابن عامر كانت إحدى أهم الركائز التي ساهمت في نشوء الاستيطان البشرية في الموقع منذ العصور الحجرية.
وأشار إلى أن أنظمة المياه المعقدة ولا سيما الأنفاق المائية سادت في فلسطين منذ العصور البرونزية واستمرت للفترات اللاحقة، ومن بين تل الانفاق المائية نفق سلوان في القدس ونفق الجيب في قرية الجيب- شمال غرب القدس، ونفق بلعمة ويقع على المدخل الجنوبي لمدينة جنين وغيرها.
ومن جهته أكد الكاتب والصحفي محمد منى أن تل مجدو يتمتع بمكانة تاريخية مميزة، ويعتبر من الأماكن السياحية والتاريخية في فلسطين.
محمد منى.. كاتب وصحفي فلسطيني
وأشار منى في حديثه لـ "عربي21" الى ان وجود هذه المنطقة تحت السيطرة الاسرائيلية يحد من تطرق وسائل الاعلام لها رغم أهميتها من الناحية التاريخية والسياحية.
وأكد على أهمية دور الإعلام في تسليط الضوء على هذه المنطقة للترويج لها ومحاولة كشف تزوير الاحتلال لما يروجه عن هذا الموقع.
وقال منى: "نظرا لأن الإعلام صاحب رسالة فيجب أن يكون له دور مهم في إظهار هذا الموقع والأحداث التاريخية التي وقعت فيه، وطرح هذا الموضوع على الأجندة في وسائل الإعلام المختلفة.
وأضاف: "يجب أن يكون لدى المؤسسات الإعلامية الفلسطينية والعربية خطة استراتيجية لإبراز موقع مجدو التاريخي وغيره من المواقع، وكشف محاولات الاحتلال تهويدها من خلال تزوير الحقائق التاريخية كون الاحتلال الجهة الوحيدة التي تتحكم في عمليات التنقيب فيه والمطالبة بتدويل بعثات التنقيب".
وتابع: "ممكن تسليط الضوء على هذا الموقع وأهميته التاريخية من خلال سلسلة تقارير وبرامج وحلقات لكي تسهم في عملية الترويج".
وطالب منى بضرورة أن يكون هناك تقارير تدعم البرنامج السياحي، خاصة أن تثبيت الرواية الفلسطينية جزء من حالة الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال.
وأشار إلى أن محاولات الاحتلال في تغير معالم منطقة مجدو تجسدت من خلال إقامة سجن فيها يعرف باسم سجد مجدو.
وأكد أنه منذ إقامة المعتقل في آذار/ مارس من العام 1988م، بالتزامن مع اندلاع انتفاضة الحجارة فقد تحول هذا المكان إلى منطقة عسكرية وتم فيه اعتقال الآلاف من الفلسطينيين، بل وأعدم الاحتلال فيه عددا من المعتقلين، إما من خلال التعذيب أو الإهمال الطبي.
بنات يعقوب" مقام أثري يُزين خربة ارتاح في طول كرم
حين تصبح وقائع مجزرة صبرا وشاتيلا هوية فلسطينية
سبسطية تاريخ عريق يحكي قصة 6 آلاف سنة من تداول الحكم