من مظاهر
خلود نص القرآن العظيم المعجز، استيعابه اللامتناهي لأذواق متلقيه، حسب حالاتهم وأحوالهم
وحسب مستوياتهم وأفهامهم. هذا من رحمة الله علينا. كأن هذا النص أم حانية تهدهد بيد
الرحمة جميع الأرواح المتعبة التي لجأت إليه.
وإذا
اتجهت أنظارنا إلى أقدس مكان على الأرض يمكن أن يتلى فيه كتاب الله - مكة المكرمة،
فلا بد أن صوت الشيخ سعود شريم سيحتل مكانة جليلة في نفوس الكثير من المسلمين، فهو
مثل الأريج الفواح الذي يتجول في امتدادات ساحات الحرم المكي، ويغرِّد حول طوّافي البيت
العتيق. يظلل أفئدتهم العطشى بصوته الذي يجعل الكلمات المقدسة تنداح مثل السيل البارد
الحلو.
قراءته
تشبه عزف السنطور. السنطور القوي بضرباته الواثقة، وخاصة في مناطق القرار. يكوِّن متتاليات
متكررة كأمواج البحر المتشابهة المتلاحقة بانتظام. والتي لا تترك لك فسحة للتأمل الممتد
أو النظر لكل موجة على حدة. لكن مجمل هذا التكرار المتلاحق هو ما يصنع أرضية للتأمل
من نوع خاص. فتتشكل ما يمكن وصفه بالمساحة الخاصة بين المتلقي وبين النص العظيم. كل
ذلك يبنى ضمن طريقة خاصة في القراءة. وهي ما اصطُلِحَ عليه عند قارئي القرآن، بطريقة
(الترتيل) وهي وجهة في القراءة ما بين الحدر والتجويد. تؤكِّد إعطاء كل حرف حقه من
النطق والأحكام، مع سرعة متوسطة في القراءة.
حاول
أن تسمع عزيزي القارئ لهذه الطريقة بصوت غِرِّيد الحرم. إمش معه في طريق مزروعة بحدائق
وأشجار تتكرر كل وحدة زمنية ومن خلف هذه الأشجار سيطل هذا النص العظيم بنوره الذي يدخل
إليك كلما تكرر هذا المنظر. هنا اترك نفسك مع هذه الطريق. وإن كنت محظوظا فامسك المصحف
وحاول القراءة معه. في النهاية لابد لك أن تصل إلى نشوة التكرار. الذي ما يلبث أن يبني
في داخلك بوابات شاهقة تجعل النص يدخل في روحك من باب الألفة.
وباب
الألفة هذا، هو عماد طريقة القراءة التي ينتمي لها الشيخ. وأما زخرفة الباب التي تقيمه،
فهي الصوت وهو الذي يتمم قوامه الرفيع الباهر.
في رمضان
عام 1992/ 1412 استمع زائرو البيت الحرام لصوت رخيم يقرأ بطريقة جديدة لم تألفها أسماعهم.
كان ذلك الصوت هو صوت الشريم القادم من الرياض والإمام المعيَّن حديثا. يقرأ بمقام
"الراست" مخالفا مألوف الطرق السابقة، التي يهمين عليها مقام الحجاز باختلاف
أشكاله أو طرق أدائه المتعددة. ومع مرور الأيام أصبحت طريقة قراءة الشيخ أكثر ألفة،
وأحبها الناس وصار لها مريدون ومقلدون في كل أنحاء العالم الإسلامي.
ولد الشيخ سعود بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل شريم في الرياض عام 1386 هـ/1966 م، ودرس بالرياض مشافهة على الكثير من مشايخها ثم التحق بكلية أصول الدين بجامعة الملك سعود بقسم العقيدة وتخرج منها عام 1409هـ/ 1988م. ثم التحق بالمعهد العالي للقضاء والمذاهب ونال درجة الماجستير فيها عام 1413هـ/ 1992م. وبعد ذلك تفرغ لنيل درجة الدكتوراه بجامعة أم القرى. وقد نال الشهادة بتقدير (امتياز) في عام 1416هـ/1995م وكانت بعنوان (المسالك في المناسك).
ومنذ عام 1992 وصوت غِرِّيد الحرم يتجول في أورقة الحرم المكي ويمشي في حواري مكة ويجتاح أرواح العشاق. يعلو في شاهق جبال مكة الصخرية ويناطح زيف البنايات المترفة. ويهبط من علٍ كي يلقم أفواه العطاش شهد الخشوع والعظمة. ينقل لهم إحساسه العالي بالقرآن. ثم يحلق في ملكوت الأبدية.
ثمة تسجيلان منتشران للشيخ في شبكة النت. يقرأ فيهما سورة فاتحة الكتاب بصوت متهدج ويتأثر إلى حد البكاء. تسجيلان عجيبان. تكاد لا تسمع لقارئ في العالم الإسلامي متأثرا في القراءة وبسورة الفاتحة التي يقرأها المسلمون في اليوم على الأقل خمس مرات. فهي من مألوف القرآن التي لا تصح صلاة المسلمين إلا بها. فما هو سر هذا التأثر؟
والذي
أدمن سماع هذا الشيخ يعرف أنه أبعد ما يكون عن التظاهر وادعاء التأثر. فكم من وقفة
له على آية تأثر بها في قراءته. وإذا علمنا أنه في إحدى هذه التسجيلات لقراءة الفاتحة،
كانوا قد قدموا له جنازة صديقه عبد الله الجارالله، سندرك أن هذا الشيخ مجبول بالقرآن
وتمتزج فيه الآيات بالخاص وبالعام. كما أن قراءته تعتمد بأساسها على التأثر والتأثير
في ميزان حساس وهبه الله له دون غيره. فينطلق من التأثر الخاص إلى التأثير العام. وهذا
باعتقادي سر انتشاره وحب الناس له.
إن هذه
الخلطة السحرية هي كل ما نحتاجه لفهم الفن والإبداع. بل كل ما نحتاجه للعيش بالقرآن
والتأثر به. كل ما نحتاجه كي نشعر أن القرآن الكريم كائن حي يتنفس معنا ونعيش معه نفهمه
ونتحاور معه في أيامنا الصعبة.