قضايا وآراء

عن ميونيخ وعباس.. والازدواجية الألمانية والانتهازية الإسرائيلية

1300x600
عادت عملية ميونيخ إلى الواجهة مرة أخرى، أولاً مع زيارة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى ألمانيا نهاية آب/ أغسطس الماضي، ثم مراسم إحياء ذكراها السنوية الاثنين وإقامة نصب تذكاري لقتلاها في مدينة ميونيخ؛ بمشاركة الرئيس الإسرائيلي إسحق هيرتسوغ ونظيره الألماني فرانك شتاينماير.

كانت تصريحات محمود عباس في برلين قد أثارت جدلاً وردود فعل واسعة وصلت إلى حد فتح الشرطة الألمانية تحقيقاً أولياً فيها، ورغم المنحى الإيجابي العام للتصريحات إلا أنها أكدت لنا مرة أخرى أن عباس غير جدير بقيادة الشعب الفلسطيني ناهيك عن أنه لا يملك الشرعية لذلك أصلاً. وفي السياق قدمت دليلاً إضافيا على الازدواجية الألمانية والغربية في التعاطي مع القضية الفلسطينية، واعتبار إسرائيل وكأنها فوق القانون وخارج دائرة المساءلة والمحاسبة، علماً أن هذه الأخيرة وكعادتها تعاطت مع التصريحات بانتهازية وسعت لاستغلاها.

قال رئيس السلطة الفلسطينية، وعن حق، في المؤتمر الصحفي مع المستشار الألماني أولاف شولتس إن إسرائيل تمارس نظام فصل عنصري بحق الفلسطينيين، ورفض أيضاً الاعتذار عن عملية ميونيخ التي نفذتها مجموعة فدائية فلسطينية أثناء الألعاب الأولمبية عام 1972 وأدّت إلى مقتل 11 رياضيا إسرائيليا معظمهم برصاص الشرطة الألمانية. وأضاف دون أن يُسأل أصلاً عن المحرقة النازية (الهولوكوست) بحق اليهود في الحرب العالمية الثانية؛ إن إسرائيل نفسها ارتكبت 50 مجزرة أو هولوكوست بحق الشعب الفلسطيني دون أن تعتذر.
قدمت دليلاً إضافيا على الازدواجية الألمانية والغربية في التعاطي مع القضية الفلسطينية، واعتبار إسرائيل وكأنها فوق القانون وخارج دائرة المساءلة والمحاسبة، علماً أن هذه الأخيرة وكعادتها تعاطت مع التصريحات بانتهازية وسعت لاستغلاها

من جهته، رفض المستشار الألماني وصف ما تقوم به إسرائيل ضد الفلسطينيين بالفصل العنصري، بينما كان السؤال الخاص بالاعتذار عن عملية ميونيخ وإجابة عباس عن المجازر والهولوكوست هو الأخير في المؤتمر الصحفي، وبعده ظهر شولتز ممتعضاً وغاضباً، وقامت المستشارية صباح اليوم التالي باستدعاء السفير الفلسطيني للاحتجاج وطلب توضيحات، قبل أن يغرّد المستشار نفسه عبر تويتر رافضاً تصريحات عباس، ما دفع هذا الأخير إلى التراجع، وإصدار بيان رسمي قال فيه إن تصريحاته أسيء فهمها، وأنه لا ينكر المحرقة وخصوصياتها، مع تأكيده طبعاً على حقيقة ارتكاب إسرائيل ومنذ تأسيسها جرائم موصوفة بحق الشعب الفلسطيني.

كما قلنا ورغم المنحى الإيجابي العام لتصريحاته، إلا أن عباس ظهر مهزوزاً غير واثق من نفسه ومواقفه، وعاجزاً عن شرح مظلومية الشعب الفلسطيني والدفاع الملائم عن قضيته العادلة. ولم يشر مثلاً بتفصيل وتوسع إلى تقارير منظمات حقوق الإنسان الموثوقة والموثقة عن نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) الذي تتبعه إسرائيل بشكل منهجي ضد الفلسطينيين في أماكن تواجدهم المختلفة، ومنها منظمة بيت سيليم الإسرائيلية ومنظمات دولية مرموقة أخرى، مثل العفو الدولية "أمنستي" وهيومان رايتس ووتش التي تستشهد الحكومة الألمانية نفسها بتقاريرها في ملفات وقضايا إقليمية وأممية أخرى.

كان بإمكان عباس أن يتحدث أيضاً وباستفاضة عن الحرب المستمرة ضد الشعب الفلسطيني ووجوده ومؤسساته، وسعيه لإرساء أسس دولته المستقلة التي يستحقها، وهي لغة يفهمها الغرب جيداً، ويشير في السياق إلى الهجمة الإسرائيلية الشرسة والممنهجة ضد منظمات المجتمع المدني الفلسطيني واتهامها زوراً بالإرهاب بتقارير مفبركة وكاذبة؛ لم تعترف بها الحكومة الألمانية نفسها ولا الاتحاد الأوروبي ولا حتى أمريكا الداعمة الأولى لإسرائيل، رغم اكتفائهم جميعاً بالشجب والاستنكار وعدم وضع ضغوط فعلية وقوية على إسرائيل لوقف تلك الممارسات.

واضح كذلك أن عباس لم يستعد جيداً للزيارة والملفات التي من المحتمل أن تُطرح سياسياً وإعلامياً، ولا للمؤتمر الصحفي والقضايا المتوقعة مناقشتها والأسئلة التي قد تطرح عنها، ولم ينتبه لا هو ولا فريقه -في دليل على افتقاد العمل المؤسساتي المرتب، واعتماد الثقة لا الكفاءة كما منظومات الاستبداد كلها- إلى حديث الصحافة الإسرائيلية والألمانية في الفترة الماضية عن عملية ميونيخ بالتزامن مع ذكراها السنوية، ونشر وثائق تزعم أن الشرطة الألمانية تعاطت بتراخٍ مع الحدث ولم تأخذ التحذيرات من العملية على محمل الجد، وأنها استعدت للإفراج عن أعضاء المجموعة الفلسطينية المنفذة حتى قبل خطف مجموعة فدائية أخرى طائرة تابعة لشركة لوفتهانزا لتحرير زملائهم. كما تجدد الجدال حول التعويضات المالية لعائلات القتلى الإسرائيليين، وعن نية حكومة برلين تقديم المزيد منها بل ومضاعفتها خمس مرات، وهو ما حصل بالفعل مع إحياء الذكرى السنوية للعملية بمشاركة هيرتسوغ وشتاينماير وعائلات القتلى.
أداء عباس الهزيل وغير الواثق من نفسه بما في ذلك التراجع عن تصريحاته صباح اليوم التالي، لا ينفي حقيقة النفاق والانفصام وازدواجية المعايير التي تبدت في موقف المستشار الألماني؛ برفض الاعتراف بالفصل العنصري رغم تقارير منظمات حقوق إنسان أممية موثوقة

وعليه، كان يجب على مساعدي عباس توقع السؤال عن العملية وتحضير إجابات مناسبة معدة مسبقاً، بما في ذلك الردّ على فرضية طلب الاعتذار عنها، والإشارة إلى أن إسرائيل لم تعتذر عن جرائمها الموصوفة بحق الشعب الفلسطيني خلال أكثر من سبعة عقود (أشارت صحيفة هآرتس في 23 آب/ أغسطس إلى إخفاء الدولة العبرية المتعمد والمنهجي لوثائق كثيرة تثبت ارتكابها جرائم حرب ضد الفلسطينيين)، وخلال حرب غزة الأخيرة قتلت عائلات بأكملها وبشكل متعمد وباعترافها دون أن تعتذر، بينما قدّم رئيس وزرائها يائير لابيد التعازي بأحد كلاب وحدة خاصة تابعة لشرطة الاحتلال.

الحديث العام عن مجازر وجرائم موصوفة ارتكبتها إسرائيل ولا تزال لم يكن مركزاً وموثقاً أيضاً، وكان يجب ضرب أمثلة عنها بشكل موثق، وحتى تحضير وثائق وملفات يمكن إرسالها إلى الصحفيين فيما بعد. والمحرقة أصلاً بكل ما تمثله في ألمانيا ولها جزء من النقاش؛ ما كان يجب على عباس التطرّق إليها وتحديداً في برلين، حيث للموضوع حساسية فائقة وحتى تجريم قانوني لمن ينكرها أو ينال من خصوصيتها. وإذا ما اضطر للحديث عنها فمن زاوية أن الشعب الفلسطيني لا يجب أن يدفع ثمن ما ارتكبته ألمانيا وأوروبا بحق اليهود، وحلّ المسألة اليهودية ما كان يجب أن يتم على حسابنا أبداً. وقبل ذلك وبعده هذا النقاش مكانه ليس برلين ولا مؤتمرا صحفيا بختام زيارة رسمية ذهب عباس فيها طالباً الدعم الدبلوماسي السياسي والمالي، علماً أن ألمانيا أحد كبار المانحين للسلطة بصفتها كما لعضويتها القيادية في الاتحاد الأوروبي؛ أكبر مانح للسلطة على الإطلاق.

أداء عباس الهزيل وغير الواثق من نفسه بما في ذلك التراجع عن تصريحاته صباح اليوم التالي، لا ينفي حقيقة النفاق والانفصام وازدواجية المعايير التي تبدت في موقف المستشار الألماني؛ برفض الاعتراف بالفصل العنصري رغم تقارير منظمات حقوق إنسان أممية موثوقة يعرفها شولتس جيداً، ما يمثل هروباً موصوفاً ومتعمداً كي لا يتم التعاطي مع النتائج والتداعيات والاستنتاجات، بما في ذلك عزل إسرائيل كنظام فصل عنصري كما جرى مع نظام جنوب أفريقيا وفرض عقوبات ألمانية وأوروبية ودولية صارمة ضدها عليها.
أكد المشهد برمته ما كنا نعرفه عن عدم جدارة محمود عباس بالقيادة، ناهيك عن سؤال الشرعية؛ كون فترته الانتخابية قد انتهت ولم يحصل على تفويض جديد

هنا وفي سياق سياسة النفاق والازدواجية والكيل بمكيالين، لا بأس من التذكير بما فعلته قناة "دويتشة فيله" الألمانية الرسمية وفصلها صحفيين عربا على خلفية قيامهم بانتقاد إسرائيل ونظام الفصل العنصري، ورفض القناة حتى فكرة ومبدأ انتقاد الدولة العبرية وممارساتها الاستعمارية ضد الشعب الفلسطيني.

وفيما يتعلق بإسرائيل نفسها، فقد تصرفت كعادتها بانتهازية وعدوانية مع تصريحات عباس، وتقمصت قناع الدولة التي يحق فعل ما يحلو لها، دفاعاً عن نفسها كضحية مزعومة مدعومة غربياً ودولياً، كما تبدى في زيارة هيرتسوغ وخطابه أمام البرلمان الألماني ثم في مراسم افتتاح النصب التذكاري لقتلى العملية، مع ادعاء الرغبة في السلام والزعم أن المشكلة كانت ولا تزال عند الفلسطينيين.

في النهاية باختصار وتركيز، أكد المشهد برمته ما كنا نعرفه عن عدم جدارة محمود عباس بالقيادة، ناهيك عن سؤال الشرعية؛ كون فترته الانتخابية قد انتهت ولم يحصل على تفويض جديد بعد هروبه المنهجي والمتعمد والمتواصل من الانتخابات بحجج وذرائع واهية، منها إعطاؤه الاحتلال حق الفيتو على الديمقراطية والمصالح الفلسطينية، ما يؤكد من زاوية أخرى معطى عدم الجدارة أيضاً. وبالعموم، بدا محامياً سيئاً وغير كفؤ لقضية عادلة وشعب صامد عنيد لم يستسلم أمام الجرائم الإسرائيلية المستمرة والازدواجية الألمانية والدولية الداعمة لها.