لطالما ظل التقويم الهجري الذي اعتمده المسلمون قبل 1427 عاما عنوانا لحضارتهم وهويتهم ورمزا لاستقلاليتهم، وعلامة مميزة تميزهم عن غيرهم، لذلك فقد كان هدفا للغرب قبل أكثر من قرن من الزمان للتخلص منه تمهيدا لتفكيك الأمة الإسلامية وذوبانها ليسهل افتراسها.
هذا التقويم الذي لم يبق منه غير الاسم لم تعد أي دولة عربية أو إسلامية تتعامل معه أو تعتمده، على الرغم من أنه يشكل شيئا كبيرا في حياتهم نظرا لأنه يرتبط بأحداث وعبادات كبيرة كالصيام والحج والزكاة؛ وباتت تعتمد التقويم الميلادي.
ومع ذكرى الهجرة النبوية التي احتفل بها المسلمون قبل أيام للعام 1444 هجري، فقد تعالت العديد من الأصوات لضرورة إعادة الاعتبار لهذا التقويم ليكون باعث أمل ووحدة لهذه الأمة التي تعيش حالة من التفكك والتشرذم والضياع.
وقال المؤرخ الفلسطيني الدكتور غسان وشاح رئيس قسم التاريخ في الجامعة الإسلامية بغزة سابقا: "التقويم الهجري يعد ميزة وعلامة للهوية والثقافة الإسلامية، فهذا التقويم من المعلوم أنه تم اعتماده في عام 17 للهجرة في عهد الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه".
وأضاف وشاح لـ "عربي21": "الأمة الإسلامية كانت مميزة وكان لها هوية خاصة وهي (التقويم الهجري) كإحدى علامات ومميزات الهوية الإسلامية والثقافة والحضارة الإسلامية".
غسان وشاح رئيس قسم التاريخ في الجامعة الإسلامية بغزة سابقا
وأوضح أن هذا التقويم كان يعتمد في المراسلات، والمعاهدات، وفي الاتفاقيات، وفي المبادلات التجارية، في الحركة الدبلوماسية، في كل شيء في حياة المسلمين، مستدركا بالقول "لكن عندنا يغيب التقويم الهجري ومعه يغيب جزء من الهوية العربية والإسلامية والحضارة الإسلامية، لذلك الأمة الإسلامية تخضع لحالة من التذويب والتحلل وأحد العلامات هو تذويب وإهمال التقويم الهجري".
وأعرب وشاح عن أسفه أنه لم تعد الآن أي دولة عربية أو إسلامية تعتمد التقويم الهجري، معتبرا ذلك بأنه علامة للتراجع والانتكاسة عند الأمة العربية والإسلامية لاسيما وأن هذه الدول جميعا دون استثناء باتت تعتمد التقويم الميلادي غير الدقيق والذي فيه خلل كبير، مؤكدا أن التقويم الهجري أدق منه .
وقال: "ما يحدث يدلل على الواقع الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية واقع تحلل، واقع تراجع وانسلاخ عن الهوية وعن الحضارة الإسلامية المميزة التي قدمت للإنسانية وخدمت البشرية قرونا عديدة بل إن كل الحضارة القائمة في الأساس قائمة على حضارة الأمة الإسلامية والحضارة الإسلامية".
وعن سبب محاربة الغرب التقويم الهجري وحرصه منذ أكثر من قرن للتخلص منه قال وشاح: "أي شيء تشترك فيه الأمة العربية والإسلامية ويعد أحد عوامل توحد هذه الأمة ومظلة لتوحيد كلمة هذه الأمة يكون هدفا للغرب".
وأضاف: "من المعلوم أن الأمة الإسلامية والشعوب العربية والإسلامية إذا توحدت تشكل أكبر وأقوى إمبراطورية في التاريخ من كل النواحي سواء الإستراتيجية أو الاقتصادية أوالديمغرافية أو حتى الموارد لذلك الغرب حريص على تفكك هذه الأمة وعدم وحدتها".
وتابع: "كل شيء يجمع الأمة الإسلامية فإن الغرب حريص على إبعادها عنه من أجل تحليل وتفكيك وتفرقة هذه الأمة ليسهل هضمها وابتلاعها، وقد بدأ بها دولة دولة وهو يحاول أن يسلخ الأمة".
وشدد على أن التقويم الهجري دلالة على أن هناك حضارة إسلامية تشترك فيها كل هذه الأمة الإسلامية والعربية. هو الشيء الذي يوحد الأمة، والغرب يريد أن يسلخ الأمة وينزع كل شيء يوحدها.
وحذر المؤرخ وشاح من أن الغرب لن يتوقف عند التخلص من التقويم الهجري فحسب بل ستمد يده إلى أمور أخرى مستقلا مثل القرآن الكريم، والسنة النبوية والتاريخ الإسلامي وقضايا أبعد من التقويم الهجري، مستدركا بالقول: "فهم (الغرب) ماضون في هذا الاتجاه في تحليل وتفكيك الأمة الإسلامية ليسهل هضمها وابتلاعها والسيطرة عليها وسرقة مواردها ومقدراتها".
ومن جهته طالب الداعية الشيخ رجب مصلح الأمة العربية والإسلامية بضرورة إعادة الاعتبار للتقويم الهجري لأنه يمثل هوية وحضارة المسلمين على مدار التاريخ.
رجب مصلح.. داعية إسلامي
وقال مصلح لـ "عربي 21": "إن الغرب والدول الاستعمارية سعوا منذ عقود طويلة للقضاء على التقويم الهجري لإدراكهم أهمية هذا التقويم بالنسبة للمسلمين".
وأضاف: "في عدة مناسبات اشترطت الدول الغربية على دول كانت تتعامل بالتقويم الهجري تقديم المساعدات لها بوقف هذا التعامل مع التقويم الهجري والتي رضخت في النهاية أمام هذه للضغوط وعطلت العمل بالتقويم الهجري".
وتابع: "الآن لا يوجد أي دولة عربية أو إسلامية تعتمد التقويم الهجري في معاملتها بعد أن أوقفت الملكة العربية السعودية ذلك منذ ٣ سنوات بعد ما ظلت تعتمد عليه على مدار ٨٦ عاما".
وأشار مصلح إلى أن التقويم الهجري يعبر عن حضارة وهوية المسلمين واستقلاليتهم، مشددا على ضرورة العودة له بأسرع وقت.
وأكد على أهمية التقويم الهجري للمسلمين كونه يحدد عبادات دينية كالصيام والحج والزكاة والأعياد والمناسبات، وكذلك الكفارة والعدة للنساء بكل أنواعها، مطالبا بضرورة العودة للعمل فيه.
وأكدت الباحثة في التاريخ نريمان خلة أن التقويم الهجري لم يكن في عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ولا في عهد خليفته أبي بكر الصديق ولكن تم التوافق عليه في عهد الخليفة عمر بن الخطاب بعد اتساع رقعة الدولة الإسلامية وحاجة المسلمين لمعرفة السنة في المراسلات بين الخليفة والولاة في المناطق.
نريمان خلة.. باحثة في التاريخ
واستعرضت خلة في حديثها لـ "عربي 21" كيف تمكن الخليفة عمر بعد مشاورات أجراها مع ولاة الأمر وأهل الحل والعقد في الدولة الإسلامية إلى الوصول لهذا التقويم ولماذا رفضوا اعتبار بداية البعثة هو التقويم أو تاريخ وميلاد ووفاة الرسول محمد.
وقالت: "في السنة السابعة عشرة للهجرة أيام خلافة سيدنا عمر بن الخطاب وخاصةً في شهر جمادى الآخرة، ورد خطاب إلى أبي موسى الأشعري مؤرخًّا في شعبان، فأرسلوا إلى سيدنا عمر بن الخطاب يقولون له: يا أمير المؤمنين، تأتينا الكتب وقد أُرِّخ بها في شعبان، ولا ندري أي شعبان هذا. هل هو في السنة الماضية، أم في السنة الحالية؟".
وأضافت: "إن سيدنا عمر جمع الصحابة وبحثوا في هذا الشأن، وكل واحد منهم طرح فكرة خاصة، فأحدهم قال: نأخذ بتاريخ مولد الرسول، والآخر قال: نأخذ بتاريخ وفاته، وأحدهم قال: نأخذ بتاريخ نزول الوحي، إلا أن الصحابة أجمعوا فيما بعد على أن أهم حدث بتاريخ الإسلام، هو تاريخ هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك أخذ سيدنا عمر بن الخطاب باستشارة سيدنا عثمان بن عفان، وسيدنا علي بن أبي طالب، وجعلوا هذا الحدث الهام جداً بداية التأريخ للأمة العربية الإسلامية جمعاء".
وأوضحت خلة أن هذا الاجتماع كان في سنة (622) ميلادية، واتفق المجتمعون فيه على أن بداية محرم تبدأ من تلك السنة، وبدأ التأريخ بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ ذلك التاريخ واعتمد هذا التقويم الهجري ليكون تقويما رسميا للمسلمين إلى أن تم تعطيل العمل فيه بعد انهيار الخلافة الإسلامية عام 1922م.
واعتبرت الباحثة في التاريخ أن حرص الغرب على تعطيل العمل في التقويم الهجري هو لإدراكهم أهمية هذا التقويم لتوحيد الأمة العربية والإسلامية ولأن هذا التاريخ يفكر العالم بهذه الدولة الإسلامية التي حكمت العالم لقرابة الـ1300 سنة.
وقالت: "في مثل هذه الأيام ومنذ 1444 عاماً، هاجر سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) من مكة المكرمة إلى المدينة لتكون هذه الهجرة بداية تأسيس الدولة التي كانت مركزاً للقانون والنظام، ومركزاً للائتلاف والتآلف، لذلك فهذه الهجرة وهذا التوقيت يذكر الغرب بتاريخ المسلمين المليء بالدروس العظيمة في الإدارة والتخطيط والإعداد. لذلك فقد كان هدفهم هدمه بأي طريقة".
ودعت إلى ضرورة إعادة الاعتبار لهذا التقويم والعمل به من خلال الدول والمؤسسات والهيئات وتعليمه للأجيال القادمة.
بعد استبعادهم سياسيا.. هل يعيش الإسلاميون عزلة مجتمعية؟
حوار حول الإسلام بين القرضاوي وجيل كيبيل والقديدي (1من3)
في عوامل الضعف الذي أصاب حياة المسلمين الدعوية والسياسية (4)