في البداية، ألفتُ إلى أنني من مواليد مخيم تل الزعتر، حوصرتُ فيه طفلاً، وخرجتُ منه ضمن قافلة المدنيين الذين قتل منهم أكثر من ألفَيْ لاجئ فلسطيني في 12 آب (أغسطس) 1976.. حتى بات هذا المخيم إحدى أهم المحطات المفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية وأحد أهم مفاصل الهوية الفلسطينية والإصرار على التمسك بها.
بعد ستٍ وأربعين سنة على الملحمة البطولية والتاريخية في مخيم تل الزعتر، وبعد سقوط المخيم الذي صمد 52 يوماً، تحت وابل 55 ألف قذيفة و72 هجوماً من مختلف الجهات والمحاور، وخسر 4,280 شهيداً من فقراء اللاجئين الفلسطينيين. ماذا يعني أن تكون من هذا المخيم؟ وما يشكل تل الزعتر في ذاكرة أبنائه؟!
أن تكون من تل الزعتر، يعني أن تمرَّ في شهر آب (أغسطس) من كل عام كأنك في دورة جديدة للحياة. وتشعر أنك تعيش عمراً فائضاً بات يبلغ اليوم ستاً وأربعين سنة. ورغم أن هذا العمر الفائض مرّ بأزمات ونكبات وحصارات ونائبات، إلا أن الولادة الجديدة تبقى هي الأكثرَ إيلاماً.
أن تكون شاباً في تل الزعتر، يعني أنك رأيت النكبة في طفولتك دون أن تفهمها، وجاء اليوم الذي ستفهم فيه ماذا يعني أن تكون فلسطينياً منكوباً، تُشرّد وتُسجن وتُعتقل وتُقتل قنصاً أو ذبحاً أو شنقاً في بلاد غير بلادك، وأن تكون رقماً بين آلاف المنكوبين بالتهجير والتشريد والقتل الجماعي.
أن تكون طفلاً في تل الزعتر، يعني أنك تستعيد تجربة أهلك في النكبة، وتؤسس لنكبتك الخاصة التي ستبني عليها ما تبقى من حياة مليئة بالنكبات. وتصبح شاهداً حياً وذاكرة شفوية يسعى إليها موثّقو التجارب الفلسطينية أو الإنسانية.
أن تكون من تل الزعتر، وحضرتَ الحصار والدمار والجوع والعطش، لن تكون نفس الشخص الذي كنته من قبل.
أن تكون من تل الزعتر، يعني أنك عشت في بقعة جغرافية لا أحد فيها بخير، بل كان في كل بيت فيها شهيد أو جريح، وفيه مأتم وثياب سوداء وأمهات ثكلى، حتى يصل الأمر بين العائلات أن يسألوا بعضهم: كم شهيدا؟ ولا يسألون بعضهم: هل أنتم بخير؟
أن تكون في تل الزعتر، يعني أنك إن لم تمُت في المخيم، فقد خرجتَ جريحاً أو يتيماً أو أصفرَ اللون نحيلاً من الجوع والعطش.
أن تكون من تل الزعتر، يعني أنك مهما كان عمرك، فقد اختزنت ذاكرة لا تموت، ذاكرة فيها العزة والصمود والجوع والعطش والوحشية والقتل والخطف والتصفية والتعذيب.
أن تكون من تل الزعتر، يعني أنك رأيت بأم العين مئات الشهداء والقتلى في داخل المخيم وفي طريق الخروج، سواء كان "طريق التسليم المدني" أو "طريق المحاربين" في الجبل.
أن تكون من تل الزعتر، يعني أن تستعيد الذكريات كل عام، وتسمعها ألف مرة ولا تسأم، وأن يكون هو الموضوع الوحيد في ذاكرة أبناء المخيم الشهيد. وأن تظل تسمع القصص الجديدة دائماً، قصص 17 ألف نسمة، فقدوا منها 4,280 نسمة، لكل مفقود قصة، ولكل باقٍ (ولا أقول ناجياً) أكثر من قصة.
أن تكون من تل الزعتر، يعني أنك أصبحت خبيراً بـ"فن الحصار"، خبرةً ستستخدمها في الحصارات التالية، في الاجتياح الإسرائيلي و"حرب المخيمات" لتتجنب الجوع والعطش وحتى الموت بالقصف.
أن تكون من تل الزعتر، يعني أن ترفض الاستسلام، ليس حتى آخر رمق، بل حتى ما بعد الموت! فالاستسلام لا يعني الخروج بسلام من الموت العزيز، بل يعني أن ترمي نفسك للقتل المُذلّ. وهذه دروس تعلمها الشعب الفلسطيني في كل مكان.
أن تكون من تل الزعتر، يعني أنك لم تعانِ من الموت فقط، بل عانيتَ من الفقد أيضاً، فقدتَ الأحياء، وبقيتَ على أمل عودتهم. ودفنتَ الشهداء في منطقة لا تستطيع زيارتهم حتى لقراءة الفاتحة عليهم.
أن تكون من تل الزعتر، يعني أن تصل إلى مرحلة تعتقد فيها يقيناً أن الموتَ أرحمُ من الحياة، وأن سلامةَ الجسد الذي فقد روحَه، أسوأ من فقدانهما معاً. وأن النجاة التي تُفقِد الإنسان عقلَه وقلبَه ليست نجاةً.
أن تكون من تل الزعتر، يعني أن تحتاج بعد الحصار إلى المآوي ودور الأيتام ومراكز إعادة التأهيل الجسدي والنفسي، ومراكز الاستماع لتفريغ الضغوط التي تراكمت في الصدور.
أن تكون من تل الزعتر، يعني أن تُفاجأ حتى اليوم، وبعد 46 سنة بقصص لم تسمعها من قبل. وتقابل أمهات ما زلن يحكين قصص أبنائهن المقتولين أو المخطوفين.
أن أكون أنا طفلاً في تل الزعتر، يعني أنني رأيت كل شيء، رأيت رجلاً على بابنا تقتله قذيفة وتبقى طفلته التي يحملها بيديه سليمة. رأيت رجلاً يركض مصاباً وقد اندلقت مصارينه من بطنه. رأيت امرأة مقتولة فوق أبنائها. رأيت أبي جريحاً. سُلختُ عن أخي وتوأم روحي في لحظة وحشية، ولم أعرف ما إذا كان قد مات أو بقي حياً حتى آخر النهار. فقدتُ أخي الذي اختطف 27 يوماً في الجبال في أيدي المجرمين. عشتُ مسيرة الخروج الطويلة التي طالما أخبرنا عنها الكبار من فلسطين إلى لبنان. رأيت وجه أخي "المشحّر" حرفياً بالعرق والتعب والسواد. عطشت في مسيرة تحت شمس آب (أغسطس) 1976 (حتى إنني كلما زرت المخيم المهدوم أو كتبت عن الذكرى يصيبني عطش شديد)، وعشت جوعاً كان الجوع الوحيد الذي بكيت بسببه في حياتي. وخرجت محمولاً في شاحنة، معصوراً بين أقدام الكبار (مات معنا عدة أطفال اختناقاً).
أن تكون من تل الزعتر، يعني أن تشحذ ذاكرتك كل يوم، لتظل متوقّدة كأن الحدث كان أمس أو صباح اليوم، فهي هوية وأمانة تحملها لأبنائك.. كي لا تنسى.. كي لا تسامح.. كي لا تغفر!!
*كاتب وشاعر فلسطيني
شفا عمرو.. "روما الصغرى" في قلب فلسطين
"طواحين السكر" بأريحا شاهدة على عراقة اقتصاد فلسطين
سخنين مدينة فلسطينية أسسها الكنعانيون قبل 3500 سنة