الجماعة الوطنية وفقدان المعايير.. مفاهيم ملتبسة (10)

نشهد في مصر وفي كثير من المجتمعات العربية والإسلامية ظواهر مختلفة خارج إطار المعقول والمقبول، ذلك أن الجماعة الوطنية في تلك البلاد قد أصابها مرض عضال يرتبط في حقيقة أمره بما يمكن تسميته "فقدان المعايير".

وربما مع تلك المشاهد السلبية في حياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تصيبنا بآثارها السلبية حينما تطل علينا بفاجعة إثر أخرى، وهي في حقيقة الأمر تمثل بما نشهده من مواقف وسلوكيات وبالجملة من أفعال جمعية ومجتمعية تمثل آثارا مرضية وعواقب سلبية وأزمات هيكلية، تبرز الأسئلة من كل صوب وحدب: ماذا يحدث؟ وكيف يحدث؟ ولماذا يحدث؟ وماذا يمكننا أن نفعل إزاء ما يحدث؟ أسئلة مشروعة في أحوال صارت تحدث في مجتمعاتنا بشكل تتراكم مشاهده وتطفو على السطح شواهده، فتبرز ظواهره التي يمكن أن تُرَد إلى عامل أصيل يتعلق بفقدان المعايير، وما يمكن أن نشهده من آثار تتعلق بالعنف الجماعي والمجتمعي، ومشاهد العنف الأسري، وشواهد الانتحار اليومي.. كلها تعبر عن مظاهر شديدة الخطورة لو أردنا تفسير ما ينتج عن تلك الظاهرة الخطيرة المرتبطة بحالة الاغتراب الجمعي والعام في الأوطان.

وفي حقيقة الأمر أن الهجرة والغربة التي تعد في شكلها التقليدي انتقالا من مكان إلى مكان، ومن جغرافيا إلى جغرافيا، ومن وطن إلى وطن، هذا الفهم للهجرة صار أمراً لا يستوعب ما يمكن تسميته بأشكال الاغتراب المختلفة، وأهمها الاغتراب النفسي والجمعي الذي ينتج عن فقدان المعايير. فأخطر من الهجرة من المكان هي الهجرة في المكان، فيعيش الإنسان ضمن أحوال من الحيرة والقلق النفسي والاجتماعي، ويشعر بالاغتراب داخل المجتمع والجماعة الوطنية وكأنه غريب بين أهله، مغترب في وطنه.

أخطر من الهجرة من المكان هي الهجرة في المكان، فيعيش الإنسان ضمن أحوال من الحيرة والقلق النفسي والاجتماعي، ويشعر بالاغتراب داخل المجتمع والجماعة الوطنية وكأنه غريب بين أهله، مغترب في وطنه

كل تلك الأمور ترد على الذهن حينما نعالج مسألة الالتباس التي تأتي على عالم مفاهيم يجب أن يستقر ويرسخ، فإذا به يطيش وتلتبس معانيه، ويدخل عليها فريق من الملبسين الذين يستخدمون وسائلهم المختلفة لتفريغ هذه المفاهيم من مضامينها الإيجابية، وتسميمها بما يؤدي في حقيقة الأمر إلى فساد قيمي واجتماعي وثقافي وسياسي يصيب البيئة المجتمعية، ويقطع أواصر شبكة العلاقات الاجتماعية ولحمة الجماعة الوطنية.

كذلك في مثل هذه الأحوال تبرز حالة فقدان المعايير من جراء أزمات كبرى تطرأ على المجتمع فتهزه هزا، وتزلزل موازين القيم هزا، وتضيع الأسس والمعايير الأخلاقية والقيمية والثقافية والحضارية، فينتج عن ذلك تلك المشاهد الخطيرة التي لا تكون إلا ترجمة لهذه الحالة المجتمعية التي تولد مشاعر سلبية؛ ليس فقط ضد المجتمعات الصغيرة بل تتحول إلى عملية عداء للمجتمع بأسره فتنفك عراه وتتقوض وشائجه.

ويؤدي ذلك، مع وجود ضغوط اجتماعية حادة من مثل أحوال الغلاء والفقر والبطالة والفساد وضياع العدل والإنصاف وسيادة الظلم والجور، إلى أزمة حقيقية في العقل الجمعي تتمثل في أزمة هوية خطيرة تشكل بيئة خصبة لنمو مجتمع الكراهية وغياب المعايير المرجعية وتهاوي المرجعيات وصراع القيم والأعراف المجتمعية المستقرة، ضمن حالة من "اللا معيارية"، في ما أسماه عالم الاجتماع الغربي "دور كايم" بـ"الأنومي" (Anomie)، بما يشير إلى حالة فقدان المعايير تلك وانتقائيتها، فتفقد وظائفها وأدوارها الضابطة لأحوال النظام العام والمجال العام.

ربما طالت بنا تلك المقدمة، إلا أنه كان من المهم أن نشير إلى أن الحالة الثورية التي أتت إلى عالمنا العربي وإلى مصر على وجه الخصوص شكلت زلزالاً مهما فتح أبواب التغيير، لكن هذه الآمال ما لبثت أن ووجهت بحالة هدفت إلى إجهاض هذا الفعل الحضاري ومحاصرته والالتفاف عليه من كل طريق، من خلال هؤلاء المضادين للثورات والداعمين للأمر الواقع على عفنه وأمراضه الهيكلية المزمنة.

وكان من المهم أن نشير إلى تلك الحالة الانقلابية التي عاجلت الأمل في التغيير فحاصرته ضمن عملية إجهاض مخططة وممنهجة، وجريمة وئد كبرى للأمل والمستقبل في التغيير بالجملة. كل ذلك وفر بيئة مأزومة جعلت مسألة فقدان المعايير ضمن هذه الحالة الانقلابية ليست مجرد انقلاب في السلطة أو انقلاب عسكري أو انقلاب سياسي، بل صاحبتها مجموعة من الانقلابات الكبيرة والصغيرة في عالم القيم والأخلاق وفي عالم المفاهيم والكلمات وفي عالم السلوك والممارسات، فانقلبت الحياة الاجتماعية والسياسية رأسا على عقب لتعبر عن تلك الحالة المتأزمة، مصحوبة بحالة فقدان المعايير التي أحدثها ذلك الانقلاب بجهد حثيث من أصحاب المصالح فيه، فخرّب المجتمع وأنظمته المتعددة، وأفسد أحوال البلاد والعباد.

بيئة مأزومة جعلت مسألة فقدان المعايير ضمن هذه الحالة الانقلابية ليست مجرد انقلاب في السلطة أو انقلاب عسكري أو انقلاب سياسي، بل صاحبتها مجموعة من الانقلابات الكبيرة والصغيرة في عالم القيم والأخلاق وفي عالم المفاهيم والكلمات وفي عالم السلوك والممارسات

وفي هذا المقام فإن الجماعة الوطنية قد تضررت تضرراً كبيراً؛ رغم أن هذا المفهوم (الجماعة الوطنية) كان مفهوماً عبقرياً استطاع "الحكيم البشري" المستشار طارق البشري أن يمكن له في كتاباته المختلفة، رابطاً إياه بمفاهيم مثل الجماعة الثقافية والجماعة السياسية، وباعتباره بديلاً مهماً لمفهوم الدولة القومية المسكون بأزماته، ويركز فيه على معنى المجتمع والأمة ضمن معاييرها الأساسية والكلية التي يجب أن تستمسك بها ضمن سياق ما أسماه "التيار الأساسي في الأمة"؛ الذي يشكل ميزان الأمم وحقيقة استمرارها وديمومة كيانها الاجتماعي الحضاري ورسوخه، إلا أنه في واقع الأمر تأتي الحالة الانقلابية لتصيب مفهوم الجماعة الوطنية في مقتل، ليس فقط كمفهوم ولكن باعتباره تجلياً لقوة المجتمع في شبكة علاقاته الاجتماعية الناهضة، فإذا بكثير من النخب -إن استحقت مسمى النخبة- تنزلق إلى مستنقع كراهية وحضيض الفرقة، وتسهم في ذلك إسهاماً خطيراً، إذ مس كل ذلك عصب المجتمع في الصميم، وأدى إلى تقطيع أواصر شبكة المجتمع ولحمته ومصادر تماسكه في سياق التلاعب بالمعايير حتى تآكلت وفُقدت.

وأدى ذلك في المجمل إلى افتقاد هذا المجتمع إلى موازينه في أنظمته المختلفة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية؛ بما صيّره إلى حالة تعبر عن خواء اجتماعي وثقافي يحاول هؤلاء ممن أُطلق عليهم اسم النخبة من كل طريق؛ ليس فقط أن يعفوا أنفسهم من ارتكاب تلك الجريمة، ولكن الأخطر من ذلك محاولتهم إبراز ذلك الإجرام في ثوب الإصلاح الضال والزائف والإصلاح المعكوس، فهدموا معايير المجتمع بدعوى إصلاحه، وهدموا قيمه بدعوى تغييره إلى الأفضل، وفي كل مرة مارسوا هذا الخداع المجتمعي ليقوّضوا بنيان الإنسان والأوطان والعمران.

المسائل المهمة في هذا المقام لا تتمثل في الدعوة إلى حوار وطني مزعوم أو في مصالحة سياسية وصلح مأزوم؛ ولكن الأمر في هذا الشأن أن نؤسس لمعاني المصالحة المجتمعية الحقيقية التي تنقذ المجتمع من براثن السياسة الاستبدادية التي تنشد التزييف، وتنشر التزوير في حياتنا الاجتماعية والسياسية

ومن هنا فإن هذا الذي طال مفهوم الجماعة الوطنية على أرض الواقع وبما أسهمت به تلك "النخب المُنحطّة" في صناعة هذا الشأن المتعلق بفقدان المعايير؛ فإنه من الضروري النهوض لإنقاذ ليس فقط مفهوم الجماعة الوطنية، ولكن مفهوم المعايير الاجتماعية والإنسانية، ذلك أن هذه المعايير إنما تشكل أسسا معيارية جماعية ومجتمعية لسلوك جماعي مقبول في سياق يمثل اتساق هذه المعايير للحفاظ على المجتمع لحمة وتماسكاً، بما يؤديه من أدوار توجه السلوك إلى حالة جماعية وتشكل جوهر الهوية الاجتماعية؛ فترشد إلى نماذج التفكير المناسب والسلوك الملائم، بما يتضمنه ذلك من رسائل معيارية تشكل في حقيقة الأمر قواعد تحدد ما ينبغي وما لا ينبغي أن يفعله الناس في ضوء محيطهم الاجتماعي.

وفق هذا التصور الإيجابي فإن المسائل المهمة في هذا المقام لا تتمثل في الدعوة إلى حوار وطني مزعوم أو في مصالحة سياسية وصلح مأزوم؛ ولكن الأمر في هذا الشأن أن نؤسس لمعاني المصالحة المجتمعية الحقيقية التي تنقذ المجتمع من براثن السياسة الاستبدادية التي تنشد التزييف، وتنشر التزوير في حياتنا الاجتماعية والسياسية، فتواجه كل ذلك ضمن عمليات إنقاذ كبرى لمفهوم الجماعة الوطنية من جانب، وتمسكها بهويتها التي تؤسس على منظومة معايير مكينة ورصينة تحصنها ضد كل العمليات التي تحاول تزييف كيانها أو تؤدي إلى تآكل وفقدان معاييرها.

ربما هذا ما قصدناه في دعوتنا للتحرك لإنقاذ هذه المفاهيم التي أراد هؤلاء أن يطلقوها في بيئة زائفة محفوفة بفائض كلام؛ من زخرف القول حول الحوار والوطنية وتبديد معانيها وتغييب آثارها الحقيقية.

twitter.com/Saif_abdelfatah