سناء جميل مع حفظ الألقاب؛ موهبة لن تتكرر، ولن يجود الزمان بمثلها مرة أخرى؛ فهي نفسها واحدة لا أكثر.
وبرحيلها فقدنا قامة فنية حقيقية كبرى؛ استطاعت خلال حياتها وعبر مراحلها الفنية المختلفة أن تقدم لنا تحفا فنية هائلة؛ تتراوح بين التباين والتنوع والاختلاف فيما يتعلق بتناولها الفني للشخصيات الدرامية التي جسدتها؛ مستخدمة في ذلك تكنيكا وطريقة سبقت بهما زمانها وعصرها.
فمن منا لا يذكر دورها الرائع في فيلم "بداية ونهاية" لصلاح أبو سيف، وذلك المشهد الخالد الذي جمعها بالممثل
المصري العالمي الراحل عمر الشريف في نهاية هذا الفيلم، حيث قدمت سناء جميل أداءً تمثيليا مدروسا بدقة وعناية فائقين؛ يعتمد على الصنعة غير المفتعلة، والتي تقود التعبير بسلاسة السهل الممتنع.
كذلك لا يستطيع أحد أن ينسى دورها في فيلم صلاح أبو سيف "الزوجة الثانية"، تلك المرأة العقيمة الموتورة المتسلطة أمام جمال وأنوثة وخصوبة فلاحة مصرية من ملح الأرض، هي السندريلا سعاد حسني.
كما أنه لا أحد يستطيع نسيان مسلسل "الراية البيضا" لمحمد فاضل؛ وتجسيدها لدور فضة المعداوي، وهي شخصية تمثل الطبقة الطفيلية التي أفرزتها فترة الانفتاح الاقتصادي؛ وما تمثله هذه الطبقة من قيم استهلاكية قبيحة تغتال قيم الحق والخير والجمال، فقدمت سناء جميل هذا الدور بأستاذية واقتدار.
غير أن هذا النوع من الأدوار به مشكلة؛ وهي أنه كثيرا ما نراه مقدما بنوع يغلب عليه النمطية الشديدة، وأصبحت من فرط تكرارها لها صورة ذهنية لدى الوعي الجمعي للمشاهدين. وهذا يؤدي إلى صعوبة بالغة لمن يتصدى لمثل هذه الأدوار مستقبلا؛ ولكن سناء جميل فاجأتنا بأنها قدمت نمط الشخصية مع الاحتفاظ بحقها في التجديد والعمل على التفاصيل وتطويرها أثناء المسلسل بدرجة أذهلتنا، وبثت روح الجدة والدهشة في مثل هذا النوع من الأدوار.
كذلك لا ننسى دورها الهام في مسرحية "ليلة مصرع جيفارا" لكرم مطاوع، والذي قدمت فيه أداءً بريختيا صرفا؛ أراده منها المخرج الراحل كرم مطاوع.
ومعروف أن المسرح الملحمي لمؤسس نظريته الألماني "بريخت" يتعاكس مع نظرية المسرح الأرسطي؛ وبالتبعية إلى نوع وطبيعة الأداء. فالدراما عند أرسطو تفرض التمثيل الإيهامي القائم على الإحساس والانفعال والعواطف؛ بينما نظرية المسرح الملحمي تتبنى العقل لإدارة المشهد الجمالي كله، ويكون التمثيل فيها تمثيلا غير إيهامي؛ بمفردات وصيغ تتعاكس تماما مع التمثيل الإيهامي.
وبالرغم من صعوبة وجدة هذا الأسلوب إبان طرح المسرحية في ستينيات القرن الماضي، إلا أن سناء جميل قبلت التحدي وخرجت عن التمثيل الإيهامي، وقدمت تمثيلا ملحميا بامتياز؛ أدهش الجمهور وقتذاك.
وفي الحقيقة الجلية؛ فسناء جميل لم تكن ممثلة بارعة وعملاقة فحسب؛ بل كانت تشع إبداعا وألقا ونورا حولها وفيمن حولها.
نعم.. أستطيع أن أقولها وأؤكدها بأريحية شديدة؛ أن هذه الفنانة العملاقة الراحلة لم تأخذ حقها في التقييم والتحليل، بما يتناسب مع حجم موهبتها الفذة الهائلة؛ وغمرتنا بها بهجة وسعادة واستمتاعا.
وهذا المقال ما هو إلا نقطة في محيط سناء جميل التي لا يعرفها أحد..!