قضايا وآراء

زيارة أردوغان للسعودية.. حديث الثورة والمصلحة والتبرير واللبن المسكوب

1300x600
رمزية زيارة أردوغان للسعودية

بعد خمس سنوات من توتر العلاقات بين البلدين، تخللتها قطيعة اقتصادية وسحب استثمارات وفرض قرارات على من يستثمر في تركيا، واستخدام الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي كرأس حربة في هذه المعركة، زار منذ أيام الرئيس التركي أردوغان السعودية بدعوة من الملك سلمان، ملك السعودية. ولقي الضيف الذي وصفته البيانات الرسمية في المملكة ومن ثم إعلامها بالكبير؛ حفاوة بالغة واستقبل في قصر السلام الملكي من الملك سلمان، وصافح ولي عهده الذي اصطحبه للقاء على أعلى مستوى من القيادة في المملكة.

سبق زيارة الرئيس التركي للملكة استقباله ولي عهد الإمارات محمد بن زايد، وهو تتويج لعمل الغرف المغلقة منذ نهاية العام الماضي، وهو ما أشرنا له في مقال "الشرق الأوسط الجديد الذي يرسمه بايدن"، والزيارات المتبادلة بين وفود دبلوماسية متوسطة المستوى للقاهرة وأنقرة، بالتوازي مع تصريح عالي المستوى من وزير الخارجية التركي ثم رئيس الجمهورية بسعيهم لعلاقات مفتوحة على الجميع، ومنها الاحتلال الإسرائيلي، ما نتج عنه زيارة رئيس الكيان لأنقرة وزيارة ابن زايد من قبله.

رمزية زيارة أردوغان للمملكة السعودية تتجلى في أن خريطة العلاقات في المنطقة تتشكل بعد عشر سنوات -هي عمر ثورات الربيع العربي- من رسمها، أكد ذلك تصريح الرئيس التركي للصحفيين في أثناء عودته من زيارة المملكة، بأن زيارة للقاهرة ممكنة خلال الفترة القادمة، في خطوة تنفيذية لأحاديث الغرف المغلقة. وعن حديث الغرف المغلقة، فإن حديث إعادة مليون ونصف المليون سوري هو إرهاصات لنتائج قد تكون نوقشت في تلك الغرف.
رمزية زيارة أردوغان للمملكة السعودية تتجلى في أن خريطة العلاقات في المنطقة تتشكل بعد عشر سنوات -هي عمر ثورات الربيع العربي- من رسمها، أكد ذلك تصريح الرئيس التركي للصحفيين في أثناء عودته من زيارة المملكة بأن زيارة للقاهرة ممكنة خلال الفترة القادمة

حديث الثورة

في نهاية 2010، أضرم بوعزيزي النار في قلوب الشعوب العربية التي كانت مستعدة أن تشتعل بفعل الظلم الذي تلاقيه من حكامها. ظلم وقهر وفقر ومرض وجهل وتطبيع علاقات منافية لفطرة الشعوب مع أعداء الأمة التاريخيين. ثورات سميت في حينها الربيع العربي، في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، وعلى استحياء المغرب وعُمان والأردن والسعودية والبحرين، في موجة أولى، ثم الجزائر والسودان في موجة ثانية.

يعزو الثوار إخفاق ثوراتهم، التي لا تزال تتنفس، إلى ما يطلق عليه الثورات المضادة التي قادتها مخابرات تلك الأنظمة بمساعدة أنظمة صديقة تهددها رياح التغيير، ومخابرات ووزارات خارجية ومالية دول الإمبريالية القديمة، صاحبة المصلحة في الإبقاء على أنظمة سان ريمو وسايكس بيكو..

لكن الحقيقة تتسع لأخطاء كارثية وعدم وعي وصولا لاختراقات من أنظمة الثورات المضادة لقيادة الثورات في بلادنا، فلا يمكن أن يشفى المريض من آلامه لو لم يعرف بدقة أسباب تلك الأمراض، سواء كانت المسببات خارجية متمثلة في أجواء يعيش فيها، أو داخلية متمثلة في فساد أعضاء أو ممارسة عادات خاطئة تزيد من انتشار المرض في جسده. ولأن السياسة لا تحتمل البطء، ولأن هناك أجهزة تعمل وعروشا تحمى ومليارات تنفق وأسيادا يقبضون، فإن التأخر في علاج المرض سواء بتغيير البيئة أو الاستشفاء من العادات الخاطئة وصولا لبتر الأعضاء التي ستسبب تسمم الجسد وتقتله؛ يعني بالنتيجة نهاية الثورة وزوالها.
السياسة لا تحتمل البطء، ولأن هناك أجهزة تعمل وعروشا تحمى ومليارات تنفق وأسيادا يقبضون، فإن التأخر في علاج المرض سواء بتغيير البيئة أو الاستشفاء من العادات الخاطئة وصولا لبتر الأعضاء التي ستسبب تسمم الجسد وتقتله؛ يعني بالنتيجة نهاية الثورة وزوالها

وبإنزال ما تقدم على ثوراتنا، نجد أن هناك خللا بنيويا في تلك الثورات، تأخرنا كثيرا في إصلاحه ولا نزال نستخدم نفس الأدوات القديمة من تبرير؛ على أمل أن يتنزل الله برحماته في ليلة القدر فينفخ في المريض من روحه فإذا به ينتفض يسعى، ولأن لله سننا، فإن لا ليلة قدر ستأتي ولا رحمات ستنزل على المتقاعسين.

حديث المصلحة

منذ عامين تساءل كاتب هذه السطور في مقال بعنوان "لماذا باعت تركيا الثورة السورية؟!" عن دور تركيا في سوريا الجارة، وفي حينها أكدنا أن تدخلا ما لم يحدث من تركيا بقدر ما هو احتضان لشعب مظلوم، وحماية لأمنها القومي، مع ذلك فلم يكن كاتب هذه السطور في حينها مندفعا حيث أورد في مقاله جملة تخرجه من حرج مربعات المصالح، التي لا تعرف السياسة التحرك خارجها فكتب: "..فمحددات السياسة الخارجية، ترسم الخرائط وتصنع خطوات التنفيذ، وقراءة هذه المحددات والإمكانيات بشكل جيد يجعل الحكم على الأمور أكثر عدلا، مع الوضع في الاعتبار أن هذه المحددات والإمكانيات تتغير من وقت لآخر بحسب التدافع الدولي".

إذن، فرسم محددات السياسة والعلاقات الخارجية مرهون بمعطيات خارجية وداخلية يناقشها صانع القرار ومتخذه، وفق مربعات المصلحة التي رسمها علم السياسة وإدارة الدول، ولذلك فإن الفاعلين في أي مشهد سواء كانوا دولا أو أحزابا أو منظمات أو حتى أفرادا، يلعب كل منهم في مربع مصلحته وعينه على مربعات الفاعلين، ويحدد نقاط الالتقاء والتقاطع قبل الانتقال من مربع إلى مربع.
المصلحة هي العنصر الحاكم في اتخاذ القرار والانتقال بين مربعات السياسة، هذه التحركات تستوجب أوراق ضغط لإزاحة العناصر من على رقعة اللعب للحلول محلها بما تقتضي تلك المصلحة، هذه الأوراق قد تكون داخلية مدفوعة بشرعية الإنجاز المبني على عدة أعمدة، أهمها الأمن والاقتصاد، وقد تكون خارجية وتؤثر على الداخل

إذن، فإن المصلحة هي العنصر الحاكم في اتخاذ القرار والانتقال بين مربعات السياسة، هذه التحركات تستوجب أوراق ضغط لإزاحة العناصر من على رقعة اللعب للحلول محلها بما تقتضي تلك المصلحة، هذه الأوراق قد تكون داخلية مدفوعة بشرعية الإنجاز المبني على عدة أعمدة، أهمها الأمن والاقتصاد، وقد تكون خارجية وتؤثر على الداخل في الملفين المذكورين، بفرض حالة من الاستقرار على الحدود وجذب الاستثمارات الخارجية. لذا؛ فإن البلاد التي تعيش وسط حلقات النار لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنهض أو توفر الاستقرار الداخلي على المستويين الأمني والاقتصادي، ناهيك عن وعود الرفاه.

حديث التبرير

ولأن أمتنا تتفنن في أحاديث التبرير، فإن أصحاب المصالح ينبرون، ولو على حساب مصلحة بني جلدتهم، للتبرير للأنظمة التي يعيشون تحت كنفها، وكل بحسب المربع الذي يعيش فيه، فمن يعيش تحت كنف أنظمة الثورات المضادة، يبرر ضلوع تلك الأنظمة في قتل بني جلدته، بأن المقتول هو السبب، أو كما كان يقول الإعلام المصري وقت الثورة، حين يقتل ثائر في ميدان به قوات للأمن: "إيه اللي وداه هناك"، رافعين سقف النفاق ليدينوا الضحية لحساب الجلاد.

وهناك من يعيشون في كنف نظام احتضن الثورات من دافع إنساني، أو هكذا روّج، فيتماهون مع النظام وينبرون في مهاجمة النظام الذي ثاروا عليه، متخذين من أرض الدولة الحاضنة منصة انطلاق سياسية وإعلامية أو ممرا لدعم الرفاق عسكريا، متناسين بأن السياسة متحولة، ما يجعلهم يتماهون أيضا كما أقرانهم في رفع سقف النفاق للنظام الحاضن، على حساب منطق الحسابات ومربعات المصلحة.

إذا ترى منهم من ينطلق لسانه للتبرير لذلك النظام مصيبا أو مخطئا، حتى لو جاء تبريره على حساب بني جلدته غير المنتفعين في كنف ذلك النظام. ويمكن تفهم مواقف هؤلاء لو كان التبرير رشيدا، مبنيا أيضا على المصلحة، حيث لا ملجأ بعد الله إلا لهذا النظام، أو آخر يفهم الحديث الشريف "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"، ويستصحب ويستدل به على غير حقيقته وفي غير موضعه، فإن ذلك لعمري لأمر عظيم.
والأجدر في ذلك، لو أن أحدهم وعى محددات السياسة وقرأ المشهد بعناية وشخّص الأسباب، لتوصل للنتائج لا شك؛ ما يجعله يسكت في مواضع السكوت، ولا يمارس عادة التبرير التي تهلكه وتهلك من وراءه، لو لم يتحرك هو الآخر ليكون عنصرا فاعلا في المعادلة، بدلا من اختياره الذي اختار بأن يكون عنصرا خاملا أو محايدا

والأجدر في ذلك، لو أن أحدهم وعى محددات السياسة وقرأ المشهد بعناية وشخّص الأسباب، لتوصل للنتائج لا شك؛ ما يجعله يسكت في مواضع السكوت، ولا يمارس عادة التبرير التي تهلكه وتهلك من وراءه، لو لم يتحرك هو الآخر ليكون عنصرا فاعلا في المعادلة، بدلا من اختياره الذي اختار بأن يكون عنصرا خاملا أو محايدا، فالسياسة وإدارة الشعوب لا تعترف بالعنصرين.

البكاء على اللبن المسكوب

لم أكن يوما ممن يجلد الذات أو أدعو إليه، بل على عكس ذلك، دافعت ما استطعت في تلك السطور المتاح نشرها، أو في اللقاءات مع من يقودون المشهد الثوري في أمتنا، عن الثورة، ولا أزال، وأحاول أن أضع بعض ما يمكن أن يفتح علي به من رؤية سواء للقارئ أو القيادي من حلول ممكنة، في أحلك الظروف، من دون أن أتخذ من البكاء واللطمية وجلد الذات وسيلة للتنصل من مسؤولية التخطيط للمستقبل.

إن ما يحدث الآن من رسم خريطة للمنطقة المبنية على المصالح والتحولات التركية؛ بدأت كما ذكرت منذ نهاية العام الماضي، ولعل إرهاصاتها بدأت من قبل وصول بايدن حتى إلى البيت الأبيض. وما سطرناه في مقال نشر في موقع "عربي21" بتاريخ 22 أيلول/ سبتمبر 2021 (يعني من أكثر من عام) بعنوان "العدالة والتنمية آخر ضحايا نادي الثورات المضادة"، كان بمنزلة إنذار مبكر لقادة الثورات الربيع العربي وفي القلب منهم قادة العمل الإسلامي، لكي تبدأ ورش عمل للتخطيط للممكن في ظل التغيرات المحتملة، وفي القلب منها الضغط على الحزب الحاكم في تركيا، بما لها من دور في احتضان عمل هذه الثورات من الخارج.

لكن وللأسف، فضل قادة العمل الثوري الموصوفة حالتهم أعلاه أن يختاروا البكاء على اللبن المسكوب، بدلا من إيجاد خيارات أو صنع أوراق ضغط في كل اتجاه لبناء مركب تعوم فيه الثورات كمرحلة مبدئية لاستعادة عافيتها، ومن ثم تكون رقما حقيقيا لا يمكن تجاوزه.
الثورات العربية لا تحتاج إلا أن تفتح الباب للإبداع، ما يعني فرصة أكبر للشباب وضخ دماء جديدة في قيادة المرحلة، فالبدائل متاحة ومساحة المناورة ممكنة، لكن أزمتنا الحقيقية، في فتح المسارات لتلافي الصدمات وخلق فرص للاختراق وتحقيق النتائج

لقد حمل أحد المقالات جملة أثارت جدلا في حينها ولم يتحملها قادة الثورات العاملون من الخارج، والمقصود حقيقة من يتخذون من تركيا مستقرا ومقاما.. "يمكن للمعارضة أن تكون رقما في معادلة العلاقة بين تركيا وأنظمة الثورات المضادة، وهو ما ترغب فيه أنقرة بلا شك، أو أي دولة تحتضن أي معارضة، لكن تلك الرغبة وذلك الاحتضان لن يكون لو لم تكن لتلك المعارضة خطط ومشروعات وتحولات يمكنها أن تكون ورقة للدولة الحاضنة، تستفيد منها ومن ثم تفيد".

إن الثورات العربية لا تحتاج إلا أن تفتح الباب للإبداع، ما يعني فرصة أكبر للشباب وضخ دماء جديدة في قيادة المرحلة، فالبدائل متاحة ومساحة المناورة ممكنة، لكن أزمتنا الحقيقية، في فتح المسارات لتلافي الصدمات وخلق فرص للاختراق وتحقيق النتائج.