بات الكل يحذر الآن من أزمة غذائية
عالمية ستضرب مناطق عديدة من هذا العالم؛ بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا،
والاعتماد على إمدادات الحبوب القادمة أساسا من طرفيها، بل وبدأ الحديث عن مجاعة
ستشهدها بقاع معينة أهمها أفريقيا.
آخر هذه الصيحات جاءت من المديرة العامة لصندوق النقد
الدولي كريستالينا جورجييفا حين قالتها بلا مواربة بأن «الحرب في أوكرانيا تعني
الجوع في أفريقيا»، لكن أفريقيا ليست وحدها المهددة بتداعيات قاسية، بل العديد من
المناطق الأخرى حتى في أوروبا، فها هي دولة كبرى مثل فرنسا يصرّح رئيسها بأننا
«بصدد الدخول في أزمة غذائية غير مسبوقة» في وقت يواجه فيه الأوروبيون حاليا ارتفاعا
كبيرا في أسعار المنتجات الزراعية المختلفة، لكن الأكيد أن التداعيات ستكون أكثر
حدة وكارثية على أفريقيا والشرق الأوسط.
لم تقف التحذيرات عند لقمة عيش الناس في هذه المناطق، بل
امتدت إلى أن يقول الأمين العام للأمم المتحدة أن «العالم سيشهد عاصفة من المجاعات
وانهيارا للنظام الغذائي العالمي». وقد ترافق مثل هذا الحديث مع التنبيه القلق إلى
أن ذلك سيؤدي حتما ليس فقط إلى أوضاع إنسانية صعبة هناك لكنه سيكون مصحوبا
بالتأكيد بقلاقل واضطرابات سياسية لا أحد يدري من الآن مداها.
وإذا كانت أوروبا تبحث حاليا بكل جهد عن مخارج معينة لمثل
هذا الاحتمال على غرار ما دعا إليه الرئيس الفرنسي في قمة الدول السبع الكبار
الأخيرة من ضرورة التوجه إلى البحث عن أفضل السبل وأسرعها لوضع خطة جماعية تبحث
رفع الإنتاج الزراعي في أوروبا، فإننا في إفريقيا وفي دولنا العربية المتضررة أكثر
من غيرها لم نر سوى الإعراب عن الخوف دون تحريك ساكن مع أن التهديد الغذائي جاءها
مصحوبا بارتفاع أسعار الطاقة فالتقت عليها مصيبتان لا واحدة فقط.
المفارقة هنا، أن خبراء الزراعة والغذاء في الاتحاد
الأوروبي يشتكون حاليا من غياب رؤية زراعية أوروبية واضحة ومتينة قبل هذه الأزمة
ويشيرون إلى أن أوروبا لا تمتلك احتياطيا استراتيجيا من الحبوب يعتد به (ألمانيا
تكاد تكون الوحيدة التي لديها مثل هذا الاحتياطي) في وقت كانت فيه دول مثل الصين
أو الهند تعمل بقوة في هذا الاتجاه، والنتيجة أن الصين تمتلك مخزون 9 أشهر فيما
ليس للاتحاد الأوروبي سوى مخزون 36 يوما لا غير.
أما تذكير معظم الدول
العربية بأن بلدا مثل السودان كان يمكن أن يكون سلة الغذاء المأمونة لها جميعا، لو
كانت هناك رؤية وبصيرة فلا فائدة في الحديث فيه.
وإذا كان هذا هو وضع تكتل منظم مثل الاتحاد الأوروبي فماذا
عساه يكون الوضع في بعض الدول العربية؟! ففي قائمة أكثر 10 دول استيرادا للقمح في
العالم نجد دولتين عربيتين هما مصر والجزائر، حيث تعد مصر أكبر مستورد ومستهلك
للقمح في العالم فهي تستورد سنويا ما يزيد على 13 مليون طن أي أكثر من ثلثي
احتياجاتها من هذه السلعة الاستراتيجية وتشكل روسيا وأوكرانيا مصدر نحو 85 في
المئة من كمياتها المستوردة.
ومع أن دولة مثل الجزائر التي تعتبر من بين أكبر الدول
المستوردة للقمح اللين في العالم لديها فرنسا ممونا رئيسيا من هذه المادة، وتتعامل
لتوفير الكميات المطلوبة من القمح مع زهاء 20 دولة، إلا أنها قلقة هي الأخرى من
الانقطاع المحتمل للقمح الروسي الذي عاد إلى أسواقها بعد انقطاع لخمس سنوات تقريبا.
أما المغرب الذي يعتبر ثالث مستهلك للقمح في أفريقيا، بعد
مصر والجزائر، وهو من بين العشر دول في العالم الأكثر استيرادا للحبوب، فهو لا يقل
انزعاجا عن غيره حيث تأتي أوكرانيا وروسيا في المركز الثاني والثالث، بعد فرنسا
ضمن مصدري القمح اللين للمملكة بينما تتبوأ كندا المركز الأول ضمن مورديها من القمح
الصلب.
ولعل تونس هي من بين الأكثر تضررا خاصة وهي تعيش أصلا
حاليا أزمة مالية حادة مع تأخر في دفع الرواتب ونقص في مواد غذائية أساسية مثل
الحبوب والسكر والزيت وبعض الأدوية. وما يزيد الوضع سوءا هناك الأزمة السياسية
العميقة هناك وحالة الإنكار لدى رئيسها الذي يعتقد أن الكثير من مشاكل البلاد يعود
إلى التآمر ضده، حتى أن النقص في المواد الغذائية أرجعه إلى الاحتكار، مع أنه لا
يفسر كل شيء، خاصة وأن بعض السفن المحمّلة بالحبوب عادت أدراجها من الموانئ
التونسية لأن الدولة لم تكن لها القدرة على الدفع، في سابقة خطيرة تحمل نذرا مخيفة
جدا حول المستقبل.
التكلفة السياسية لكل ما سبق غير معروفة حاليا خاصة في كل
من مصر وتونس مع تصاعد الأسعار ومزيد اختناق الناس في معيشتهم، فلا ننسى أن كليهما
عاشا في ثمانينيات القرن الماضي انتفاضات شعبية كبرى سميت بانتفاضات الخبز بعد
الرفع في أسعارها.
أما تذكير معظم الدول العربية بأن بلدا مثل السودان كان
يمكن أن يكون سلة الغذاء المأمونة لها جميعا، لو كانت هناك رؤية وبصيرة فلا فائدة
في الحديث فيه.