النار
تعني القوة، وبها أرهب الإنسان الحيوانات المفترسة، وبها يأنس، ويطهو، ويرى في الظلام،
ولذلك عبدها المجوس، أما الغرب فأكرموها، وجعلوها منطلقًا للتاريخ وميناء للمعرفة،
ولا يخلو معبد من التعبّد بالشموع، ويحتل بروميثيوس موقعًا فريدًا بين آلهة الإغريق،
فهو الذي سرق النار من الآلهة ومنحها للبشر، فعوقب أشد العقاب، سرقة الأسرار العلمية
من الغرب عقوبتها كبيرة لنذكر ويكيليكس. ويجد المرء عند جيمس فريزر الشهير بكتابيه:
"الغصن الذهبي" و"أساطير حول النار"، وكذلك كلًا من ماكس مُيلر
في كتابه: "أصل وتطور الدين"، ويونغ في كتابه "تحولات ورموز الليبيدو"،
صلات النار بالجنس.
وفي
كتاب "التحليل النفسي للنار" يجد غاستون باشلار أنواعًا من النيران بعد البحث
عن جمرتها في قصائد شعراء وفلاسفة، مثل النار الخفيّة، ونار القانون، ونار الحب ونار
الجنة، والنار الباردة. وليته ذكر نار الغضب، ويرى أن بروميثيوس هو أوديب المعرفة،
فهو الذي قتل والده المعرفي كما قتل أوديب والده الذي ولده، ومن ذلك أن الطفل غالبًا
ما يسرق علبة الثقاب ليشعل النار بعيدًا عن عيون الأهل، وأن النار كائن اجتماعي أكثر
منه طبيعيّ، ويتذكر بهجة إشعال والده النار في البيت. ويجب أن نتذكر أن أوربا بلاد
باردة، وأن النار تعني المتعة والعائلة والطعام الطيب، ووجد فريزر في الأساطير الغربية
أن كثيرًا من الطيور والحيوانات سرقت النار، ويمكن أن نتذكر أن الأوربيين كانوا يحرقون
موتاهم مثل الهندوس، وقد عادوا إلى الحرق حديثًا، وكان الحرق قديمًا ذوبانًا في الطبيعة،
أما الآن، فهو بزعم الحرص على الطبيعة، والاستفادة من الأرض في الزراعة، مع أن الحرق
يضرّ الطبيعة ويخرم الأوزون، وبعد دخول الغرب في النصرانية زعموا أَن الله أوصاهم بها
فقال: "لَا تطفئوا النَّار من بيوتي"، ولذلك لا تجد الكنائس والبيع وبيوت
الْعبادات تخلو من الشموع الباكية.
ويجد
باشالار في أسطورة امبدوكليس للشاعر هولدرين بصهره جسده في البركان، نوعًا من الخلود،
ويقرأ حلم الشاعر نوفاليس بالحرارة، فيرى أنه نسخة أخرى من امبدوكليس، بقوله: إن رجل
المنجم عائد إلى رحم أمه، وساعٍ إلى المجد والغنى. ويرى في دراسة رابعة عن الشعر هوفمان
الذي وجد في الخمر "ماء النار" جمعًا عجيبًا بين الماء والنار. وأن الفلسفة
نتجت من النار بتأمل الفيلسوف في النار ولهبها ووجاقها. الفلسفة رماد الفكر.
وتجد
عند العرب أنواعًا من النيران جمعها الثعالبي في "ثمار القلوب في المضاف والمنسوب"
مثل نَار الله، قَالَ الجاحظ: مَعْلُوم أَنه عز ذكره عذب الْأُمَم فى هَذِه الدُّنْيَا
بِالْغَرَقِ والرياح وبالحاصب والخسف وَالرَّجم وَالْمَسْخ والجوع وَالنَّقْص من الثمرات
وَلم يبْعَث عَلَيْهِم نَارا كَمَا بعث عَلَيْهِم ريحًا وَمَاء وأحجارا وَإِنَّمَا
جعلهَا فى عِقَاب الْآخِرَة وَعَذَاب العقبى وَنهى عَن أَن يعذب بهَا شيء من الْحَيَوَان،
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا تعذبوا بِعَذَاب الله)، ونَار إِبْرَاهِيم؛
وهي مثلٌ فى الْبرد والسلامة، ونَار مُوسَى؛ إذ ذهب يقتبس نَارًا فوجدها نورًا فَكلم
الله تكليما، ونَار القربان هي الَّتِى جعلهَا الله آيَة لبنى إِسْرَائِيل فى مَوضِع
امتحان إخلاصهم وتفرق نياتهم، ونَار الحرتين، وهي نار الرجل الصالج خالد بن سنان، ونَار
الْقرى، وهى من أعظم مفاخر الْعَرَب وأشرف مآثرها، وهى النَّار الَّتِى كَانَت ترفع
للسَّفر وَلمن يلْتَمس الْقرى، ونَار الْحَرْب على طريق الاستعارة، ونار الشجر،
"الَّذِي جعل لكم من الشّجر الْأَخْضَر نَارا فَإِذا أَنْتُم مِنْهُ توقدون"،
و نَار الْحلف؛ عند التحالف، ونَار الْمُسَافِر يضرمونها خلف المسافر الذي لا تستحبّ
عودته، ونَار الْمَجُوس، و نَار الاصطلاء، ويضْرب بهَا الْمثل فى الْحسن والإمتاع،
ونَار الْإِنْذَار لإبلاغ الخبر، ونَار الاستكثار في الحرب، ونَار الاستمطار، وكَانَت
الْعَرَب فى الْجَاهِلِيَّة الجهلاء إِذا تَتَابَعَت عَلَيْهِم الْأَزْمَان وركد فيهم
الْبلَاء وَاشْتَدَّ الجدب واحتاجوا إِلَى الاستمطار، استجمعوا مَا قدرُوا عَلَيْهِ
من الْبَقر وعقدوا فى أذنابها وَبَين عراقيبها السّلع ثمَّ صعدوا بهَا فى جبل وأوقدوا
فِيهَا النَّار. ونَار التهويل، يهولون بها على الأسود، ونَار الصَّيْد، هي الَّتِى
توقد للظباء وصيدها لتعش إِذا رامت النّظر إِلَيْهَا وَلَا تخيل من وَرَاءَهَا، ونَار
الزحفتين، ونَار الغضى، يضْرب بهَا الْمثل فى الْحَرَارَة، لِأَنَّهَا أحر نَار الْجَمْر،
ونَار الحباحب، تضرب مثلًا للشيء يروق وَلَا طائل فِيهِ، ونَار الْبَرْق، كل نَار فى
الدُّنْيَا تحرق العيدان وتستهلكها إِلَّا نَار الْبَرْق، فَإِنَّهَا تجىء بالغيث،
ونَار الْمعدة ؛ هل من مزيد، نَار الْحمى، نَار الشوق، نَار الشَّرّ، نَار الْحَيَاة،
نَار الشَّبَاب، نَار الشَّرَاب، ونَار الكيّ، يضْرب بهَا الْمثل لِلْأَمْرِ يقدر فِيهِ
الْخَيْر فَيكون على الضِّدّ، ونَار الذبالة، وهي نار الحسد، وقبسة العجلان، وَيُشبه
بِمن يدْخل دَارًا ليقبس نَارًا فَلَا يمْكث فِيهَا إِلَّا ريثما يقتبس ثمَّ يخرج،
وَفرَاش النَّار، وهي معروفة، سرادق النار، وهي استعارة قرآنية، ونار الشوق .. وسواها.
وكما
يظهر من أسمائها هي نيران للمنفعة والطهي والاصطلاء والضيفان والتهديد والكناية عن
الجوع أو الحب أو الحياة، ليس فيها نار للجنس، والفلسفة مكروهة عند العرب، فأفضل البلاغة
ما رضيته الخاصة وفهمته العامة.
قد يقول
القائل إن سبب حياد النار عند العرب هو حرارة البادية، لكن القول مردود، فالبادية شديد
البرودة في الليل. أما الحب، فله سعير ونيران، ويبرد بالقبلة والوصال. وعندما جاء الإسلام
هذّب ثقافة العرب تهذيبًا، وأبغض في النار، فالنار عاقبة الكافرين في جهنم، "إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ
فِيهَا"، "ونَارٌ حَامِيَةٌ"، و"نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ
"، والحمى من فيح جهنم، وأمر النبي أصحابه: أبردوا الطعام. وأمر بترك الوضوء مما
مست النار، ونجد مثلًا أن الصحابي الحصين بن عمران مصافح الملائكة قد كفت الملائكة
عن زيارته لأنه اكتوى، وقيل لأنه اشتكى، ويقابل خمرة الغرب ماء النار، دموع الخشية
من الله، فالنار لا تحرق عينًا بكت من خشية الله، وبالتالي لا تحرق جسده، وهو الباكي
من خشيته من السبعة الذين يظلهم الله في ظله، وفي التكبر "قَالَ أَنَا خَيْرٌ
مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ". و"َالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ
مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ". ويمكن استحصال النور من غير نار، "يَكَادُ
زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ".
وفي
الحديث: "إن على الله عهدًا لمن شرِب المسكرات ليسقيه طينة الخبال". قالوا:
يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: "عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار"،
أما الدموع فمن خشية الله تحمد وليس نواحًا: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام
يوم القيامة، وعليها سربال من قطران ودرع من جرب”. و"إن الغضب من الشيطان، وإن
الشيطان خلق من النار، وإنما تُطْفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ". على
ندرة الماء في الصحراء.
هل يمكن
الخلوص إلى القول إن حضارة الغرب البارد نارية وإن حضارة الإسلام حضارة مائية؟!