كتاب عربي 21

ريان، عنوانا لـ"الفشل"

1300x600

دولة كادت تزيح جبلا لإنقاذ طفل سقط في بئر، لم تستطع إصدار بيان تواجه به الرأي العالم وتحضره لتلقي صدمة الوفاة، فاختارت سبيلا لإنهاء الحكاية بلا أضرار، وهي تعلم علم اليقين أنها بذلك ستئد زغاريد المحتفلين في الحناجر، وستحول دموع أفراحهم إلى آهات وأتراح. 

يبدو أن العقل الأمني انتصر في تحديد سيناريو إنهاء قصة الطفل ريان، فمنطقة الريف وتاريخها مع السلطة المركزية لم تكن دوما على ما يرام، لكن الدولة التي أعادت الجثمان ليصلى عليه ويوارى الثرى بقريته النائية، كانت أقدر على أن تواجه الجموع بالحقيقة ومعها الملايين ممن تابعوا الحكاية، ورفعوا أكف الضراعة إلى الله أن تكلل جهود إنقاذ الطفل بالنجاح ليخرج حيا من جبه، أدانت من حيث لا تدري عقلها الأمني الذي "انتصر" ساعات قبلها.

التعامل الإعلامي والتواصلي للدولة المغربية مع حادثة شدت أنظار العالم وحولت المغرب إلى قبلة تشرئب إليها الأعناق من كل بقاع المعمور، يطرح أكثر من علامة استفهام. فحينما يعهد إلى كاميرات القنوات الإلكترونية، بما لها وما عليها وهو كثير، لتكون الذراع الإعلامي العشوائي للدولة، يسائل الجهاز الإعلامي الرسمي ممثلا في قنوات تلفزيونية يصرف عليها من المال العام، وظلت تبث برامجها كالمعتاد وكأن ما يقع في ضواحي شفشاون المغربية شأن لا يعنيها. 

المسلسلات التركية والبرامج الفكاهية وغيرها لم تخلف موعدها مع المشاهد، فدفاتر التحملات، التي توقعها القنوات العمومية مع الدولة مقابل التمويل، لا تسمح بتوقيف البرامج الاعتيادية حسب من خرجوا ليبرروا هذه المأساة الإعلامية المستمرة منذ عقود. وإن حان وقت النشرات "الإخبارية" خرجت المتابعة للحدث هزيلة لا تقدم خبرا يقينا، خصوصا مع غياب الحكومة وأجهزتها عن التعليق، ما فتح المجال للإشاعات كي تمد أرجلها وتنتشر، وتتناقلها قنوات دولية ركبت الموجة وسايرت سيل "الأخبار" الواردة دون تدقيق أو تمحيص. 

 

لا يمكن التشكيك في الجهد الذي بُذل في قرية إغران بإقليم شفشاون، لكن الشعب المغربي ومعه العالم يستحق أكثر من مشاهد كاميرات مركزة على الجبل وبوابة النفق، فالحدث الحقيقي كان يتم داخل النفق بعيدا عن الأنظار والتدقيق والمراقبة.

 



المفارقة أن شيئا يسمى "الإخبارية المغربية"، وهي مشروع كان يهدف لإنشاء قناة إخبارية مغربية، ظل كما عادته، منذ وأد المشروع قبل بدايته، يبث كل شيء وأي شيء غير الأخبار. نسي القائمون على الرداءة والفجر الإعلامي استبدال لوغو القناة ليظل بعض منهم محتفظا بعائداته المادية، مقابل تسيير قناة شبح لا وجود لها. إعلام التعليمات سقط في الامتحان.

لم يكن السقوط مقتصرا على الإعلام الرسمي، فالحكومة بكل أجهزتها ظلت غائبة عن المواكبة والتأثير. لقد بدا أن تدبير "الأزمة"، التي تحولت لشأن عالمي لا مجال للسقوط فيه، تحولت للقصر، فلا شيء يفسر غياب الحكومة من خلال ناطقها الرسمي، الذي تحول إلى صامت رسمي، لتفسح المجال لبعض من موظفي الوقاية المدنية أو المهندسين المدنيين أو العم الصحراوي، ليقدموا التصريحات ويتحدثوا عن "سير العمليات". 

عزيز أخنوش، رئيس الوزراء، لم يسمع له حس حتى انتهاء العمليات وصدور بلاغ الديوان الملكي المعزي بوفاة الطفل ريان، ليقدم الشكر للملك ويعزي العائلة وكفى. بعدها، حزم أمتعته وسافر إلى الدوحة لحضور أشغال اللجنة العليا القطرية المغربية ويشارك في فعاليات اليوم الوطني الرياضي، وحين التأمت الحكومة في اجتماعها الأسبوعي، لم ينبس "صامتها" الرسمي ببنت شفة بخصوص الحادث، وكأنه صار نسيا من الماضي.

إغلاق الكتاب تقصير وخطأ لا يغتفر دون تدوين أو قراءة السطر الأخير. والسطر الأخير في أزمات أو حوادث كتلك التي عشناها لخمسة أيام، بيانات تفصيلية عن سير أعمال فرق الإنقاذ منذ البدء حتى استخراج جثة الطفل، وبيان طبي يخبر بنتائج التشريح، ولجنة تحقيق برلمانية تحدد مكامن الخلل إن وُجدت ومعها المسؤوليات، فالدولة التي لم تتأخر في تنظيم ندوة صحفية لمدرب منتخبها الوطني وحيد حاليلوزيتش، بعد أن قدم تقريره التقني على ما يبدو للاتحاد الكروي لتفسير أسباب الفشل/ النجاح من وجهة نظره في كأس أفريقيا، لمعايرة المغاربة والتعالي عليهم بل والتشكيك في الوضعية الأمنية للبلاد، مطالبة بمثلها أو على الأقل ما يغني عنها من معلومات دقيقة حول الأيام الخمسة التي شدّت انتباه العالم، في حالة غريبة لا تحدث إلا صدفة أو بتقدير سميع عليم.

 

حريّ بدولة اعترفت بجهودها دول كبرى ومرجعيات دينية ومنظمات وأفراد، أن تنهي الحكاية كما بدأت شفافة لا تكتنفها جنبات ظل وغموض.

 



قبل أشهر قليلة عرّت التغطية الإعلامية التي نقلت مشاهد آلاف المغاربة وهم يصارعون أمواج المتوسط؛ سعيا منهم للوصول إلى الضفة الأخرى بسبتة ومليلية "هشاشة" الدولة وأجهزتها. كان من بين "الهاربين" قاصرون وفتيان وأطفال رضع استغلت إسبانيا صورهم لرفع دعاوى بالمحاكم الأوروبية ضد البلد الأم. لكن الخسارة الأكبر مسحت صورة البلد في المخيال الجمعي العالمي بعد انتشارها كالنار في الهشيم. بعض من منظري العدمية والمؤامرة طرحوا السؤال: كيف لدولة تضحي بأبنائها وترمي بهم في الأمواج أن تسعى فعلا لإنقاذ طفل التقمه الحوت/البئر؟ وكيف لدولة لا تزال الشوارع ومراكز الاحتجاز ببعض الدول الأوربية تأوي مئات من قاصريها أن تهب لنجدة طفل في بلدة في أقصى جبال الريف؟ هذه هي المعركة الفعلية التي وجب الانتصار فيها، وهذا هو الامتحان الأول للنموذج التنموي الجديد. طمر الآبار المهجورة وإغلاق فتحات البقية لم ولن تكون الرد الأمثل على ما شهدته قرية إغران، فعلاج قصر القامة لم يكن يوما بشراء بذلة طويلة.
  
ختاما، لا يمكن التشكيك في الجهد الذي بُذل في قرية إغران بإقليم شفشاون، لكن الشعب المغربي ومعه العالم يستحق أكثر من مشاهد كاميرات مركزة على الجبل وبوابة النفق، فالحدث الحقيقي كان يتم داخل النفق بعيدا عن الأنظار والتدقيق والمراقبة. وحريّ بدولة اعترفت بجهودها دول كبرى ومرجعيات دينية ومنظمات وأفراد، أن تنهي الحكاية كما بدأت شفافة لا تكتنفها جنبات ظل وغموض. 

لقد نالت القصة الاهتمام العالمي بعد انتشار صور كاميرا هاتف محمول للطفل الصغير من داخل البئر وهو يقاوم الألم والظلمة والخوف، وكان الأمل معقودا أن تنتهي بإنقاذه حيّا لكنها إرادة الله. الإبقاء على ذكرى ريان تحتاج إلى استخلاص الدروس ومعالجة الأخطاء وتوفير الإمكانات لأجهزة الإنقاذ، كما تحتاج أن تنتهي حكايته بالقدر نفسه من الشفافية التي بدأت بها، باعتبارها السبيل الأوحد لتكريس الثقة في مصداقية المؤسسات.