نشر موقع المعهد الملكي البريطاني للشؤون الدولية "تشاتام هاوس" تقريرًا سلط فيه الضوء على مدى أهمية دور الإسلام والمسلمين في تشكيل أوروبا.
وفي تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، تقول الكاتبة مريم محمود؛ إنه عند مناقشة الدور التاريخي للمسلمين في أوروبا، فإن معظم المؤلفين يركزون على المسلمين في الجزء الغربي من القارة الذين جاء الكثير منهم كمستوطنين مهاجرين من دول ذات أغلبية مسلمة، وهو ما ينتج عنه تعريفهم كـ"أجانب" آخرين.
وتوضح الكاتبة أن الكاتبة إميلي غريبل تأخذ مسارًا مختلفًا؛ حيث إنها ركزت في كتابها "المسلمون وصنع أوروبا الحديثة" على المسلمين الأصليين في منطقة جنوب شرق أوروبا الذين لا يزالون يتعرضون للهجوم المستمر رغم انتمائهم الفعلي لهذه المنطقة.
وتشير الكاتبة إلى أنه في ظل التوترات السياسية الحالية والهجمات المستهدفة على المسلمين في البوسنة - التي لطالما كان العداء بين الأعراق والديانات فيها في أسوأ حالاته - تجدد رواية غريبل الدقيقة للمشهد الاجتماعي والسياسي في المنطقة الحاجة الملحة لحل مثل هذه المواضيع، ويعتبر عملها بمثابة مداخلة منعشة للأدب على جبهات مختلفة؛ حيث إنه يفسد الافتراضات النمطية التي أطلقها "السؤال الشرقي" الذي يُصّوَّر فيه المسلمون على أنهم أقلية عرقية بسيطة تعيش تحت الحكم الاستعماري.. وبدلًا من ذلك؛ توضح غريبل ماهية هذه المجموعة من السكان الأصليين المهمشين الذين لا يمثلون كيانًا واحدًا متجانسًا.
وتسلط غريبل الضوء، بحسب ما قالت الكاتبة، عن طريق الكشف عن تاريخ المنطقة على مدى قدرة المسلمين على التغيير، الذين لم يكونوا مجرد رعايا سلبيين، بل كانوا مواطنين فاعلين وكانت مشاركتهم حيوية في صياغة الأعراف الاجتماعية والبنى السياسية والأخلاقية والتشريعية.
وتعمل أطروحة غريبل المصممة بدقة - التي توضحها الكاتبة - كقوة معاكسة لخطاب صدام الحضارات المستمر منذ عقود، والذي يصنف مسلمي المنطقة على أنهم غرباء عثمانيون يمكن أن يكونوا كبش فداء عندما تقتضي الحاجة لذلك، مبينة أنه رغم سعي الدولة الأوروبية إلى العلمانية، إلا أن دور الدين، وخاصة في المجتمعات الدينية المهمشة لا يمكن التغاضي عنه أو تحويله إلى قضية "أقلية" بسيطة.
وُضعت هذه الحجة في ثلاثة أجزاء تاريخية، بدءا من انتقال السلطة بعد العثمانيين (1878-1921)، إلى مشروع بناء الأمة اليوغوسلافية (1918-1941) وصولًا إلى الإصلاح السياسي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا (1941-1949).
وتبين الكاتبة أنه رغم ارتكاز معظم التحليلات التاريخية للمنطقة على تصرفات الدولة تجاه الأقليات المسلمة؛ إلا أن غريبل تشير إلى غياب مثل هذا النهج المشبع بالتحيزات المؤسسية من المصادر والأساليب ذاتها المستخدمة لفهمها، وبدلا من ذلك تأخذ المسلمين وواقعهم المعيشي وفاعلية عملهم كنقطة انطلاق لها، وقد تمكنت بشكل فعال من تجنب مثل هذه المنعرجات.
وأكدت الكاتبة أن أكثر ما يميز هذا الكتاب - الذي يبدأ كل فصل فيه تقريبًا بسرد تاريخي ثاقب وشخصي للغاية من مسلم في المنطقة، والذي يمهد الطريق لتقييم جريبل للنضالات الاجتماعية والسياسية والقانونية الرئيسية - هو نهج الانعكاس الذاتي الذي تتبعه غريبل لمواجهة مثل هذه المواضيع الحساسة بعناية فائقة.
وتلفت مريم النظر إلى المنهجية الثرية التي تستكشف غريبل بها الموضوع من خلال روايات أولى وثانية عن كيفية مناورة المسلمين في كل من المجال العلماني وداخل الأماكن الدينية؛ مثل المدارس (المدارس الدينية الإسلامية) والأوقاف (صناديق المجتمع المحلي) والمفتين والعلماء (المتدينين) والمحاكم الشرعية، وهو ما يُظهر للقارئ مدى تأثير المسلمين وكيف أنهم قادوا مسار الديمقراطيات الدستورية في أوروبا في مفاصل تاريخية رئيسية.
لا تكتفي غريبل بتقديم رواية أخرى لأهمية مؤتمر برلين لعام 1878 الذي مكّن من ترسيم الحدود الإقليمية الجديدة في عالم ما بعد العثمانيين، بل إنها تحدثت عن مساهمة المسلمين في الروايات الناشئة حول المواطنة، كما قالت الكاتبة.
وبالتالي فإنه، بحسب ما ذكرته مريم؛ لا يمكن الجزم بأن القيادة الإسلامية هي مجرد مجموعة سهلة الانقياد ومتجانسة، مشيرة إلى أنها كيان يحدد شكل مشروع المواطنة الأوروبية من خلال إعادة صياغة كل من القواعد العلمانية الإمبريالية، وكذلك الأحكام الفقهية الإسلامية لتلائم سياقها الفريد، مقارنة ببقايا الحكم العثماني البائد.
والفرق الأساسي الذي يضع هذا الكتاب بمعزل عن غيره من الأعمال المعاصرة المتعلقة بهذا الموضوع - كما تؤكد الكاتبة - هو أن غريبل تبرز العديد من التعقيدات داخل المذاهب الموجودة داخل الجماعات الإسلامية في المنطقة، والعلاقات المتذبذبة بين علماء الدين التقليديين والمفتين والقضاة من جهة وبين سلطات الدولة العلمانية المذكورة من جهة أخرى؛ بشكل معقد في معظم فصول هذا الكتاب.
وتقول الكاتبة إنه في بعض الأحيان؛ كان يُنظر إلى علماء الدين على أنهم يتعاونون مع الدولة لإعادة تثقيف المسلمين بما يتماشى مع الأنظمة السياسية الناشئة في المنطقة؛ حيث توضح غريبل، كما تنقل الكاتبة، أن المفتين سافروا في عام 1914 عبر جنوب صربيا للقيام بالعمل التبشيري (الدعوة) للسكان المحليين وتشجيعهم على دعم الدولة الصربية.. وبالمثل، فقد طمأن القضاة في الجبل الأسود عام 1902 المسلمين المحليين بأن اتباع قانون الأرض، سيضمن لهم "حقوقهم الشرعية" التي حددها رجال الدين المسلمون بشكل غير واضح.
وعلى إثر ذلك، فإن مريم توضح كيف وُلد التناقض بين الدول، حين أُعطي دور بناء الأمة وتحرير المجتمعات الدينية المحافظة لرجال الدين التقليديين الذين سعوا إلى تفسير وتطبيق الإسلام بطريقة تمكنهم من الحفاظ على موقعهم في السلطة. وفي هذا الصدد؛ توضح غريبل أنه بدلًا من أن يصبحوا أكثر ارتباطًا بالهياكل العلمانية للدولة والمجتمع - من خلال القانون المركزي والتجنيد والتمثيل السياسي - أصبح المسلمون في الأراضي العثمانية سابقًا أكثر ارتباطا بالإسلام، وفي الوقت نفسه، زاد استعمال الخطاب الذي يشير إلى المسلمين كأقلية.
وعلى النقيض من ذلك؛ فقد كان المفكرون الإصلاحيون الليبراليون يقفون في مواجهة أنظمة الدولة، وأصبحت مثل هذه الانقسامات الداخلية داخل المساحات الإسلامية أكثر وضوحًا في ظل الحكم الشيوعي، الذي قاتل فيه أفراد من نفس المجتمع الإسلامي في معسكرات مختلفة؛ حيث تحالف بعض المسلمين مع المعسكر الشيوعي، فيما عارضه البعض الآخر، وأدت قسوة الحكم الشيوعي منذ سنة 1945 من خلال إلغاء المناصب الإسلامية كالقضاء الشرعي والإفتاء إلى زيادة تمسك المسلمين ومقاومتهم لمحاولات القضاء عليهم.
وفي نهاية المطاف، تقول الكاتبة إن غريبل تقدم منظورًا معقدًا لمسلمي البلقان وتجاربهم الحياتية، ولتداعيات ذلك على المجتمع وعلى الدول نفسها، مؤكدة أن إعادة رسم غريبل للأسس التاريخية لقصة المسلمين وصناعة أوروبا الحديثة ليست مجرد مثال على أن المسلمين ليسوا أجانب في المنطقة، بل هي دعوة لقلب النظرية الراسخة التي تستخدم هذا "الأجنبي" لمزيد من التحيز، والتي تطرد المسلمين والأقليات الأخرى من أوروبا التي لطالما كانت موطنهم.
"ذا هيل": هكذا يمكن لقطر وأمريكا إنقاذ أوروبا من نفسها
MEE: أوروبا ترصد كافة قوارب المهاجرين لكنها تتركهم يغرقون
التايمز: عراقيل قد تحول دون وصول الغاز القطري إلى أوروبا